المقدمة
مع دخول سوريا مرحلة سياسية جديدة بعد سقوط نظام الأسد، برز جهاز الأمن العام، الذي أعيدت تسميته بعد إعادة هيكلة لقوى الأمن والشرطة ليصبح "الأمن الداخلي"، كواحد من أبرز المؤسسات التي أنيط بها حفظ الأمن والاستقرار في ظل تحديات داخلية وخارجية معقدة. وقد شكل الزج بهذا الجهاز في المحافظات السورية المختلفة، بعدما كان يعمل في إدلب فقط في ظل حكومة الإنقاذ، خطوة ضرورية لتنظيم المشهد الأمني في مرحلة انتقالية شديدة الحساسية، وجاء في لحظة فراغ كان من شأنه أن يهدد بتفكك الدولة والمجتمع معا1.وفي سياق ملء الفراغ الأمني الذي أعقب سقوط النظام، سارعت وزارة الداخلية إلى فتح باب الانتساب إلى جهاز الأمن العام خلال فترة لا تتجاوز الأسبوعين2، ما أدى إلى تدفق آلاف العناصر الجدد من دون آليات دقيقة للانتماء أو الفرز، الأمر الذي أفرز فجوات في الانسجام والانضباط، بين عناصر التزمت بالقيم المؤسسية وأسهمت في حفظ الاستقرار، وأخرى استغلت موقعها لمصالح خاصة، ساهم في ذلك غياب المعايير الصارمة في تداول زي رجال الأمن العام وشعاراتهم، إذ أصبحت متاحة في الأسواق3، إلى جانب إخفاء بعض عناصر قوى الأمن الداخلي وجوههم باللثام، ما صعّب تمييزهم وأتاح لبعض الفئات انتحال شخصياتهم وارتكاب الانتهاكات من قبل بعضهم. الأمر الذي تسبب في تهديد الثقة المجتمعية التي بدأت تتشكل حياله.
سارعت وزارة الداخلية إلى فتح باب الانتساب إلى جهاز الأمن العام خلال فترة لا تتجاوز الأسبوعين.
وفي محاولة لمعالجة هذه الثغرات، اتخذت الحكومة الجديدة جملة من الإجراءات، شملت إقرار مدوّنات سلوك، وإنشاء مركز لتلقّي الشكاوى، وإطلاق تصريحات رسمية تؤكد على محاسبة مرتكبي الانتهاكات. غير أن معالجة المشكلة لا تقتصر على البعد التنظيمي فقط، بل تتطلب أيضاً بناء رمزية بصرية جديدة لعناصر قوى الأمن الداخلي في سوريا، تستند إلى توصيات ودروس مستخلصة من تجارب ودراسات دولية.
شرعية الشرطة وصورتها الرمزية
تعتبر الأجهزة الأمنية إحدى الوسائل الرسمية التي يمارس بواسطتها الضبط الاجتماعي من خلال تطبيق القانون والنظام الوضعي في المجتمع، والتي يفترض أن يكون عملها حيادياً وعلى مسافة واحدة من المواطنين دون أي استثناء طائفي أو عرقي أو فئوي أو طبقي4.
ولتحقيق هذا الهدف لابد من توفر ثلاثة شروط:
- ثقة الشعب بالجهاز الأمني، وتشمل هذه الثقة الاعتقاد بنزاهة الشرطة أو الجهاز الأمني، وحرصه على أداء واجباته على أكمل وجه، وعلى حماية المجتمع من الجريمة والعنف.
- استعداد المجتمع للانصياع للقانون وسلطة الشرطة، أي شعورهم بالالتزام والمسؤولية لقبول سلطة الشرطة.
- الاعتقاد بأن إجراءات الجهاز الأمني مبررة أخلاقيًا وملائمة للظروف، وهذا ما يعرف بمصطلح شرعية الشرطة (Police legitimacy)5، ويعني الاعتقاد بوجوب السماح لها بممارسة سلطتها للحفاظ على النظام الاجتماعي، وإدارة النزاعات، وحل المشكلات في مجتمعاتها.
وعادة، عندما تفتقر الشرطة إلى الشرعية، يقل تعاون الشعب معها، وقد تتصاعد التفاعلات المشحونة بانعدام الثقة إلى صراعات تهدد سلامة الجهاز الأمني والمجتمع، ما يعزز حلقة من العداء ويضعف السلامة العامة، خاصة في مجتمعات الأقليات ذات التاريخ الطويل من التوتر مع أجهزة الأمن6.
ونتيجة التحديات التي واجهها جهاز الأمن الداخلي خلال مرحلة إعادة التشكيل، برزت حالات متفرقة أثّرت سلبًا على عملية بناء الثقة بينه وبين المجتمع، ولا سيما في بعض المناطق التي شهدت خللاً أمنياً مثل السويداء والساحل السوري7.
تُعتبر التصورات الذهنية لشكل الجهاز الأمني وممثليه على الأرض، من أهم محركات الثقة والدعم، والتي تتشكل جزئيًا من خلال التمثيل الرمزي الذي تظهره8. أي أن الهيئة الشكلية وتصميم الزي الرسمي للشرطة يرتبط مع سلوكهم بشكل مباشر بتصور الجمهور للشرطة وشرعيتها، ما يجعل الهوية البصرية أداة أساسية لبناء الثقة وتعزيز الصورة الذهنية الإيجابية للجهاز الأمني.
تُعتبر التصورات الذهنية لشكل الجهاز الأمني وممثليه على الأرض، من أهم محركات الثقة والدعم.
الهوية البصرية للجهاز الأمني
إن التمثيل الرمزي للشرطة بوصفها تجسيدًا للتماسك والنظام، يجعل من الرمزية الكامنة في الهوية البصرية للجهاز الأمني مرآةً تعكس الهوية الاجتماعية والسياسية والانتماء المجتمعي. كما تؤثر هذه الرمزية بصورة مباشرة في إدراك الأفراد لشرعية الأجهزة الأمنية ومستوى احترافيتها وموثوقيتها. ومن جهة أخرى، فإن الحدّ من الممارسات الاستبدادية للشرطة يتطلّب تغييرًا في مواقف الضباط وسلوكهم، إلى جانب إعادة النظر في أنماط الزيّ الرسمي بوصفه عنصرًا رمزيًا في بناء صورة المؤسسة الأمنية9.
يرتبط الانطباع العام بالاستبداد داخل المؤسسة الشرطية بأسلوبها العسكري وملابسها الرسمية، وهو ما ينعكس أيضًا على تصوّر الضباط والعناصر لدورهم المهني. وبناءً على ذلك، فإن الحدّ من الممارسات الاستبدادية وتعزيز السلوك المهني يتطلّب إعادة النظر في مواقف أفراد الشرطة وفي تصميم الزيّ الرسمي على حدّ سواء10.
على سبيل المثال، تم إدراج خط أزرق رفيع في شعار شرطة بريطانيا، حيث حظيت شارة "الخط الأزرق الرفيع"، الذي يمر عبر منتصف الشعار بالتقدير لأنها وضعت الشرطة في قلب مجتمع الأمة المُتخيل، فكان الخط رمزاً للفصل بين النظام والفوضى، والقانون والتفلّت، وقد اعتبر ذلك مصدرًا للشرعية ويُجسد نداء الواجب لضباط وعناصر الشرطة كمدافعين عن الشعب، وأن جهاز الشرطة مستقل عن السيطرة السياسية، وممثل للأمة وجزء من الدولة، ولكنه غير خاضع للسيطرة الحكومية المباشرة11.
وبالمثل، يظهر أن التمثيل البصري المرتبط بزي الشرطة، بما في ذلك لون الزي، وغطاء الرأس، والنظارات الشمسية، والشارات، ومكان وضع السلاح يلعب دورًا مهمًا في إضفاء الشرعية الذاتية على الشرطة أو العكس12.
إن التمثيل الرمزي للشرطة بوصفها تجسيدًا للتماسك والنظام، يجعل من الرمزية الكامنة في الهوية البصرية مرآة تعكس الهوية الاجتماعية والانتماء المجتمعي.
الحاجة إلى استكمال الصورة
تحاول الحكومة السورية زرع الثقة بين المجتمع والجهاز الأمني في وزارة الداخلية، وذلك من خلال سلسلة من الإجراءات التنظيمية تمثلت في إعادة هيكلة الجهاز الأمني، ودمج قوى الأمن العام والشرطة في كيان موحد تحت اسم "قيادة الأمن الداخلي"، بهدف توحيد الصلاحيات، وتعزيز القدرة على الضبط والمساءلة. كما استُحدثت إدارات جديدة لتلقي شكاوى المواطنين ومتابعة التجاوزات، من بينها دوائر مركزية مختصة بالشكاوى13، بالإضافة إلى إصدار وزير الدفاع لوائح جديدة للسلوك والانضباط العسكري، في صفوف القوات المسلحة، وذلك لترسيخ ثقافة عسكرية جديدة تليق بجيش وطني يحمي الشعب ويدافع عن السيادة14.
كما اعتمدت وزارة الداخلية لباسًا بلون أسود لعناصرها في الأمن الداخلي، بينما يرتدي عناصر الشرطة اللون الأبيض، إلا أنها لم تحدد لباسًا معروفًا لبقية الأقسام والتخصصات، كما أنه ما يزال يرتدي بعض العناصر ألبسة عسكرية مموهة15.
لذلك يُستحسن اعتماد توصيات أكثر عملية وتطبيقية تُسهم في استكمال مسار الإصلاح وتعزيز الثقة بين قوى الأمن الداخلي والمجتمع، وذلك من خلال ما يلي:
- اعتماد زي رسمي وشارات موحدة ومتخصصة لجميع فئات قوى الأمن الداخلي: مع توضيح اختصاص كل فئة مثل شرطة المرور ومكافحة المخدرات، واعتماد ألوان تتوافق مع الهوية البصرية الجديدة للدولة السورية، مع استبعاد اللون الأسود لما يحمله من دلالات سلبية مرتبطة بالذاكرة الجماعية في استخدام تنظيم داعش له، إلى جانب حظر بيع أو تداول الزي الرسمي المعتمد في الأسواق العامة.
- إصدار مدونة سلوك خاصة بقوى الأمن الداخلي: تُراعي حساسيات التعامل مع المجتمع السوري ومكوناته المختلفة، وتضمن احترام حقوق الإنسان والحريات العامة والمواطنة وسيادة القانون، بصيغة ضمير المتكلم تشبه القسم، ما يدفع العناصر إلى تبني القوانين كقيم داخلية يلتزمون بها، وليس مجرد أوامر تنفيذية، بما يعزز الانضباط والالتزام المهني، على غرار ما اعتمدته الجمعية الدولية لضباط الشرطة (IACP)16.
- التشدد في تطبيق حظر إخفاء الوجه للعناصر الأمنية: مع تعزيزات إضافية لتوفير الثقة للمجتمع وطمأنته، من خلال إرفاق هويات واضحة للعناصر توضح الاسم والرتبة ونوع الاختصاص، ومذكرات تفتيش مصدقة من وزارة الداخلية في حالات القبض أو التفتيش.
- تعزيز الشرطة الموجهة نحو المجتمع (COP): وتركيزها على التواصل الإيجابي مع الجمهور كإستراتيجية فعالة لتعزيز ثقة الجمهور وشرعية الشرطة. بما في ذلك زيادة وتيرة الدوريات وإيقافات المرور، وإرسال النشرات الإخبارية إلى السكان عبر الرسائل القصيرة17.
- إشراك النساء من جميع مكونات المجتمع السوري في سلك الشرطة: بالأخص في عمليات تفتيش المنازل ومراكز الشرطة، لضمان شعور النساء والفئات الضعيفة بالأمان عند التفاعل مع عناصر الأمن18.
- تسمية الأجهزة والأفرع الأمنية: بحيث تضمن وضوح الاختصاصات والمسؤوليات لكل فرع ووحدة أمنية، وتربط تسميتها بدورها الحقيقي في حفظ الأمن والخدمة المجتمعية، مما يسهم في تعزيز الشفافية، ويكرّس مفهوم الأمن بوصفه خدمة عامة لا سلطة قسرية.
- تحديد مستويات استخدام القوة: تبعًا لطبيعة المهمة والتهديد، بحيث تُحصر الأسلحة الثقيلة في المهام ذات الطابع العسكري المباشر، بينما تعتمد العمليات الشرطية الروتينية على الوسائل الأقل عنفًا،، عوضا عن سلاح الـ "كلاشنكوف"، الذي تستخدمه المؤسسة العسكرية في وزارة الدفاع19، وعدم إظهاره إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
- تفعيل آليات واضحة وشفافة لتلقي شكاوى المواطنين: من خلال إنشاء مكاتب ميدانية ونوافذ إلكترونية مخصصة لذلك، مع اعتماد حملات توعية رسمية وإعلانات طرقية تعرّف المواطنين بحقهم في تقديم الشكاوى وآلية متابعتها، مما يسهم في نقل مفهوم المساءلة من المجال المغلق إلى الفضاء العام، وإظهار التزام المؤسسة بالشفافية والانفتاح على الرقابة المدنية.
- توثيق عمليات التدخل الأمني: من خلال كاميرات ميدانية عامة، وأخرى توضع على لباس العناصر المخولين باستخدام السلاح، بما يضمن الشفافية والمساءلة ويحدّ من التجاوزات الفردية.
يُستحسن اعتماد توصيات أكثر عملية وتطبيقية تُسهم في استكمال مسار الإصلاح وتعزيز الثقة بين قوى الأمن الداخلي والمجتمع.
صورة الجهاز الأمني انعكاس للمجتمع والسلطة
ما تزال الصورة الذهنية لقوى الأمن الداخلي في سوريا في مرحلة التشكل، إذ إن بناء هذه الصورة عملية تراكمية وبطيئة تتطلّب وقتًا كافيًا وجهدًا مؤسسيًا مستمرًا لإصلاح الممارسات وترسيخ القيم الجديدة. ولا يمكن إحداث تحول حقيقي في هذه الصورة ما لم يمتلك أفراد الجهاز وقياداته إرادة التغيير وقناعة راسخة بضرورته، إلى جانب تحسين العوامل التي تسهم في تكوين هذه الصورة ومعالجة الواقع الذي تنتج عنه.
يرتبط موقف الناس من الأجهزة الأمنية واتجاهاتهم نحوها، وكذلك الصورة المتكوّنة في أذهانهم عنها، بمدى عدالة السلطة الحاكمة أو ظلمها في استخدام أجهزة الأمن والشرطة والعسكر، كما يتأثر هذا الموقف أيضًا بحالة الأمن والاستقرار والطمأنينة التي توفرها الدولة. فعندما يشعر المواطن بالأمان على نفسه وممتلكاته، تتعزّز نظرته الإيجابية نحو رجل الأمن، بينما تؤدّي ممارسات القمع أو التسييس إلى تكوين صورة سلبية تُضعف الثقة وتُكرّس الفجوة بين المجتمع ومؤسساته الأمنية20.


