أولا، مقدمة:
انتهت سنوات الحرب السورية الأربعة عشر بانتصار فصائل المعارضة المسلحة وخلعها نظام بشار الأسد عسكرياً بحلول الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024. ومع انتصارها وتحولها من مجموعات مسلحة إلى سلطة شرعية، شرعت القيادة الجديدة في حَلِّ الفصائل العسكرية واستيعابها ضمن هياكل الدولة العسكرية والأمنية الناشئة1، في حين نجحت بالحسم العسكري والعمل الأمني في تفكيك وطرد الميليشيات والقوى الموالية للنظام المخلوع، ومع ذلك، بقي فصيلٌ عسكريٌّ ممسكاً بمناطقه التي لم تنفذ إليها معارك التحرير وإن خسر شيئاً من مناطقه الطرفية على زخم المعارك، ألا وهو قوات سورية الديمقراطية "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والمتمركزة في الجزيرة الفراتية بين الحدود العراقية شرقاً ونهر الفرات غرباً، وبذلك آلت الجغرافيا السورية إلى منطقتي نفوذ أساسيتين: الأولى والكبرى، هي بطبيعة الحال للحكومة السورية الجديدة وتشمل معظم الأراضي السورية وإن تخللها جيوب تمرد في السويداء والساحل والبادية الشامية، والأخرى لقوات سورية الديمقراطية على شمال شرقي البلاد الغني بالموارد الطبيعية.
نشأ على إثر هذه المتغيرات مسارٌ تفاوضيٌّ بين القيادة السورية الجديدة وقوات سورية الديمقراطية إذ رأى الطرفان في الطرق السياسية بديلاً معقولاً عن الصدام العسكري يراعي جملةً من المحاذير الظرفية والإقليمية والدولية. أسفرت المفاوضات عن توقيع اتفاق بين الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع وزعيم قسد مظلوم عبدي في العاشر من آذار/مارس 2025 يحدد العلاقة بين الفصيل المدعوم أمريكياً والدولة السورية الفتية ويضع إطاراً زمنياً لإدماج قواته في البنية العسكرية والأمنية الحكومية2. ثم بدأت تظهر علامات السخط من مسؤولي الحكومة السورية على قسد لعدم التزامها ببنود الاتفاق وبدأت تصدر عنهم تلميحات حول عمل عسكري محتمل3.
وفي هذا السياق تأتي هذه الورقة لتقف على أبرز الجوانب العسكرية لقوات سورية الديمقراطية، مستعرضةً هيكلها وتشكيلاتها العسكرية والرديفة وتحالفاتها وما راكمته من خبرة عسكرية وقتالية على مدار سنوات وجودها، ثم تنتهي بتوصيات تراها ضرورية لتعامل الحكومة السورية معها.
ثانياً: ما هي قوات سورية الديمقراطية "قسد"؟
هي تكتل عسكري عموده "وحدات حماية الشعب" الكردية، يضم فصائل عسكرية عربية لا وزن قيادي لها وأخرى سريانية وتركمانية وحتى كردية صغيرة، نشأ برعاية أمريكية في سياق الحرب على تنظيم داعش في تشرين الثاني/أكتوبر 20154، ولا يزال يحظى بدعم ورعاية أمريكية. وهذه القوات هي الشق العسكري من مشروعِ حوكمةٍ سياسي يقوده "حزب الاتحاد الديمقراطي" "PYD" الكردي يُدعى "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية"5. أما وحدات حماية الشعب "YPG" فهي الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني "PKK"6 وقد تأسست في تموز/يوليو 2012 على نواة قيادية عسكرية من حزب العمال الكردستاني7.
ثالثاً: الهيكلية القيادية8:
- المجلس العسكري: أعلى سلطة في قوات سورية الديمقراطية، المخول بالقرارات الإستراتيجية، والمسؤول عن انتخاب القائد العام للقوات وأعضاء القيادة العامة. يتكون من مندوبي جميع الفصائل العسكرية المشكلة لقوات سورية الديمقراطية.
- القائد العام: مُنتخب من المجلس العسكري. يدير اجتماعات المجلس العسكري واجتماعات القيادة العامة، ويشرف على فعاليات القيادة العامة ويصادق على قراراتها في المدة بين اجتماعي المجلس العسكري.
- القيادة العامة: مجموعة منتخبة من المجلس العسكري، عدد أعضائها ما بين التسعة وثلاثة عشر وذلك بحسب الضرورة، ويُشترط فيهم التمثيل النسائي. تقوم القيادة العامة على فرز القوات وسوقها وإدارتها، وتخطيط وإدارة وتنفيذ الحملات العسكرية.
- لجنة الانضباط العسكري: لجنة من خمسة إلى سبعة أعضاء يعينهم المجلس العسكري، مسؤولين عن انضباط الفصائل والأفراد.
- المكاتب الإدارية:
- مكتب العلاقات.
- مكتب الإعداد والتدريب.
- مكتب الإعلام.
- مكتب الذاتية والأرشيف.
- مكتب المالية والتسليح والتموين.
- مكتب المعلومات العسكرية.
- مكتب شؤون المرأة المقاتلة.
رابعاً: العدد:
يدور على ألسنة قيادات قسد ومسؤولي "الإدارة الذاتية" قولهم أن عدد قواتهم قد بلغ مئة ألف عنصر9، وكانت آخر تلك التصريحات ما أدلى به قائد قسد مظلوم عبدي في حديثه لصحيفة التايمز البريطانية بُعيد سقوط نظام الأسد10.
على أن الرقم ذاته قد ذكره تقرير الجنرال المفتش لعملية العزم الصلب المُقدَّم إلى الكونغرس الأمريكي عن الربع الثاني من عام 2019، ولكن عن عدد جميع القوات العسكرية والأمنية المتحالفة لمحاربة داعش،11، والتي تمثل قسد قسمها العسكري، وأوضح التقرير أيضاً أن المخطط حينها أن يصبح قوام قوات قسد ثلاثين ألف مقاتل فقط، وهو ما يتوافق مع تقرير لموقع الجزيرة صدر بعد سقوط نظام الأسد يقدَّر فيه عدد مقاتلي قسد بين العشرين إلى الثلاثين ألفاً12. وقريبٌ منه كذلك ما جاء في تقييم بحثي صدر عن مركز حرمون عام 2020 يقدر عدد عناصر قسد مع التنظيمات الأمنية الشريكة لها بين 26000 إلى 3300013.
وقد نشطت عقب سقوط نظام الأسد حركة انشقاق من الأفراد المقاتلين في قسد إلى مناطق الحكومة السورية حتى وصل عددهم إلى بضعة آلاف، معظمهم من سلك التجنيد الإجباري الذي تفرضه "الإدارة الذاتية" على الشباب في مناطق نفوذها، وبعضهم من القيادات العربية14. وفي مقابل هذه الخسارة فقد استقبلت قسد كثيراً من ضباط وعناصر نظام الأسد المخلوع الفارين إلى مناطق سيطرتها وألحقت قسماً منهم بصفوفها15.
خامساً: التشكيلات العسكرية:
ترتكز قوات سورية الديمقراطية على الأذرع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي وفي القلب منها "وحدات حماية الشعب"، وما سوى ذلك من فصائل عسكرية في جسم قسد فيمكن اعتبارها ترصيعات على هذا الجسد وتحالفات محلية في المناطق التي تمددت إليها وحدات الحماية في سياق الحرب على تنظيم داعش خارج مناطق الغالبية الكردية، إذ استُفيد منهم في قتال التنظيم16، وفي إعطاء المشروع السياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي شكلاً تعددياً ديمقراطياً17. ولعل شهادة الجنرال بالجيش الأمريكي، رايموند توماس، تُغني عن كل مقال في إيضاح وزن وحدات حماية الشعب في قوات سورية الديمقراطية، إذ يقول: "قلنا لهم [لوحدات حماية الشعب] بالحرف: عليكم تغيير اسمكم. ماذا تودون أن يكون اسمكم بخلاف وحدات حماية الشعب؟ وفي غضون يوم أعلنوا أن اسمهم أصبح قوات سورية الديمقراطية. رأيت في استخدام كلمة "الديمقراطية" لفتة رائعة. أعطتهم بعض المصداقية"18.
تذكر وزارة الدفاع الأمريكية في تقاريرها السنوية المعلِّلة لمصاريف "صندوق التدريب والتجهيز لمكافحة داعش" أن قسد تتكون من عدد من التشكيلات منها: قوات كوماندوس، التحالف العربي السوري، فريق العمليات الخاصة (وكانت تسميه من قبل عام 2024 "قوات مكافحة الإرهاب"19) ووحدات حماية الشعب20. وبالجمع بين المصادر المتاحة يمكن تقسيم قوات سورية الديمقراطية إلى التشكيلات التالية:
- وحدات حماية الشعب "YPG": الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" الكردي التي أُعلن عن تشكيلها يوم انسحاب قوات نظام الأسد من مدينة عين العرب (كوباني) في تاريخ 19/7/2012 وإن كانت فاعلة من قبل ذلك. أسستها ودربت كوادرها نخبة عسكرية من حزب العمال الكردستاني، وخاضت أولى معاركها وانتصرت فيها في مدينة رأس العين أواخر عام 2012 وأوائل 2013 ضد تشكيلات من المعارضة السورية المسلحة تتقدمهم جبهة النصرة، ثم سطع نجمها في معركة كوباني ضد تنظيم داعش عام 2014 فشدت أنظار الولايات المتحدة لدعمها والتحالف معها21. والالتحاق بهذه الوحدات ليس حكراً على الكُرد، إذ تحوي في صفوفها مقاتلين عرب22.
تنتظم قوات وحدات حماية الشعب في ترتيب عسكري من خمس تشكيلات أكبرها الفوج، كما يلي:
- وحدات حماية المرأة "YPJ": الجناح النسائي لوحدات حماية الشعب وإن تمتعت بالاستقلال الاعتباري. أُعلن عن تأسيسها في مدينة المالكية (ديريك) بتاريخ 4/4/201325. لها ممثل في المجلس العسكري26.
- قوات الكوماندوس، وقوات مكافحة الإرهاب "HAT": تنعتهم تقارير وزارة الدفاع الأمريكية مجتمعين بـ "قوات الحسم (Finish Forces)"27، وُضعت لهم خطة ليصير عددهم 1720 عنصراً في عام 2022 (1120 لقوات الكوماندوس و600 لقوات مكافحة الإرهاب "HAT")28، أما محور عملهم فهو مكافحة التمرد: تقوم قوات الكوماندوس بالمداهمات النوعية الدقيقة (الجراحية) وعمليات التمشيط، بينما تقوم قوات مكافحة الإرهاب بعمليات الاقتحام المباشر للخلايا المتمردة في المناطق الحضرية والأماكن الضيقة29. وهم لذلك أشبه بقوات جندرمة خاصة. كثير من المصادر تدرجهم في القوات الأمنية، ولكن وجود ممثل لقوات مكافحة الإرهاب في المجلس العسكري30 يجعل منهم جزءاً من قسد.
- المجلس العسكري السرياني "MFS": تنظيم عسكري يتبع لـ "حزب الاتحاد السرياني" المسيحي، تأسس عام 2013 وله جناح نسائي باسم "قوات حماية نساء بيث31 نهرين"، وهو من الفصائل المؤسسة لقسد. ينتشر في أحياء من مدينة القامشلي ومناطق في ريف الحسكة32. له ممثل في المجلس العسكري33.
- جيش الصناديد: تنظيم عسكري يتبع لقبيلة شمر العربية وشيخها "حميدي دهام الجربا" ينتشر في محافظة الحسكة. تأسس عام 201334. وهو من "التحالف العربي السوري" المشارك في تأسيس قسد35. له ممثل في المجلس العسكري36.
- جيش الثوار: تنظيم عسكري من عدة فصائل عربية وكردية وتركمانية37. وهو من "التحالف العربي السوري" المشارك في تأسيس قسد38. له ممثل في المجلس العسكري39.
- لواء الشمال الديمقراطي: منبته من محافظة إدلب، انسحب منها عام 2015 إلى عفرين على وقع الاشتباكات مع جبهة النصرة، وحينها انضم إلى قسد، ثم انسحب إلى الجزيرة السورية بعد الهزيمة في غصن الزيتون. ينحدر معظم مقاتليه من محافظة إدلب40. له ممثل في المجلس العسكري41.
- المجالس العسكرية: وهي تشكيلات مناطقية تجمع الفصائل المحلية الموجودة ضمن نطاقات جغرافية محددة في تنظيم قيادي معين. فهي محاولة لتجاوز الفصائلية، وإعادةُ هيكلةٍ دافعها قدرة أكبر على التحكم والسيطرة، ومشاكلة الجيوش النظامية. وقد نحت قسد إلى اعتماد المجالس العسكرية في عام 2019 حين أعلنت عن خمسة عشر مجلساً عسكرياً يغطون مناطق سيطرتها ومناطق خارج سيطرتها، ولكن هذا العدد تغير بمرور الأيام إذ تبين عدم فاعلية بعض هذه المجالس فانتهت42، ويمكن معرفة ما بقي قائماً منها من خلال استعراض أعضاء المجلس العسكري لقسد، وهم:
- مجلس إقليم الجزيرة العسكري
- مجلس تل تمر العسكري
- مجلس دير الزور العسكري
- مجلس هجين العسكري
- مجلس الرقة العسكري
- مجلس الطبقة العسكري
- مجلس تل أبيض العسكري
تمارس قسد أسلوباً أمنياً سلطوياً لضبط المجالس العسكرية والسيطرة عليها بعيداً عن هياكلها القيادية المعتمدة، إذ توزِّع قادة عسكريين كُرداً موالين لحزب العمال الكردستاني (يُعرفون محلياً باسم "الكادرو") على جميع التشكيلات العسكرية بصفتهم "مستشارين عسكريين" وتمنحهم صلاحيات واسعة تنافس سلطة قادة هذه التشكيلات، فيقومون على ضبط النواحي السياسية والعسكرية في مناطق صلاحياتهم44.
سادساً: القوات الرديفة:
هي تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية أو أمنية تعمل خارج الإطار التنظيمي لقوات سورية الديمقراطية، توفر لها دعماً لوجستياً ورافداً بشرياً في حالات الحشد والتعبئة القتالية، تنشط تحت سلطة "الإدارة الذاتية". أهمها:
- قوات الدفاع الذاتي "HPX": وهي قوات التجنيد الإلزامي الذي تفرضه "الإدارة الذاتية" على جميع الذكور (مع بعض الاستثناءات45) الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً لمدة عام كامل، تنشط في الدعم اللوجستي والقتالي لقوات قسد46.
- قوات الحماية الجوهرية "HPC": تتكون من مدنيين مُدربين تدريبات عسكرية قصيرة، تُوزَّع عليهم أسلحة فردية لحماية مدنهم وبلداتهم وقراهم في حالات الطوارئ. أنشأها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في العام 201247. كما يمكن أن يعمل أفراد هذا التنظيم كمصادر معلومات أمنية (مخبر) عند الطلب48.
- الشبيبة الثورية: وهي تشكيل أمني غير رسمي معظم أفراده من المراهقين، يُدار من شخصيات عسكرية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني49.
سابعاً: التشكيلات الأمنية:
قسد تشكيل عسكري أصلاً، وتتبع التشكيلات الأمنية داخل مناطق نفوذها تنظيمياً إلى "الإدارة الذاتية"50، ومع ذلك تظل هذه التشكيلات مجموعات مسلحة يمكن أن يُستفاد منها في حالة التعبئة العسكرية حين الحاجة، فهي بمثابة قوات رديفة لقسد. كما أن هناك تداخل على المستوى الميداني بين قوات سورية الديمقراطية والقوى الأمنية التابعة للإدارة الذاتية، فهؤلاء جميعاً تنظيمات مسلحة ما دون دولة، لا حدود واضحة ومنضبطة للصلاحيات بينهم فعلياً. ولذلك نجد كثيراً من المصادر التي تتناول شؤون قسد تضم إليها التنظيمات الأمنية.
تندرج كافة التشكيلات الأمنية في مناطق سيطرة قسد تحت مسمى "الأسايش"51. في حين تُقسِّم وثائق البنتاغون القوات الأمنية في مناطق قسد إلى: قوات أمن داخلي، وقوات أمن داخلية إقليمية52، وهذه الأخيرة بمثابة قوات حندرمة.
ثامناً: التحالفات:
التحالف الاستراتيجي الأهم لقسد هو مع الولايات المتحدة الأمريكية، فهي راعية نشأتها53، وتخصص لها جزءاً من موازنة وزارة الدفاع السنوية تحت بند "صندوق التدريب والتجهيز لمكافحة داعش." تظهر وثائق البنتاغون أن الولايات المتحدة تدعم قسد بالذخيرة والسلاح الخفيف والمتوسط واللوجستيات ومعدات غير قتالية ورواتب شهرية وبالتدريب العسكري والأمني54 بالإضافة إلى الدعم الاستخباري والمراقبة والاستطلاع (ISR)55. هذا إلى جانب انتشار قوات وقواعد عسكرية أمريكية في مناطق نفوذ قسد56، والتزام الولايات المتحدة بالدفاع عن مناطق شرقي الفرات (باستثناء عملية نبع السلام التركية المحدودة والتي سبقها تنسيق أمريكي تركي مكثف57). ولذا فلا مبالغة في وصف قسد بأنها ذراع (Proxy) للولايات المتحدة في سورية.
وما دون هذا الحلف، فقد نسجت قسد تحالفات تكتيكية وظرفية مع عدد من الأطراف. كما الحال مع روسيا التي فتحت لها قسد الباب لإنشاء قواعد عسكرية في مناطق نفوذها بعد عملية نبع السلام التركية، واستمر التعاون بينهما حتى بعد سقوط نظام الأسد58 لكن يظل هذا التحالف مراعياً للمحاذير الأمريكية59. كذلك انفتحت قسد بعد سقوط نظام الأسد على العلاقة مع إيران60 وإسرائيل61، كلٌ في ملفات معينة، وتطور هذه العلاقات أو انحسارها رهنٌ بالتقلبات الجيوسياسية.
تاسعاً: الخبرة القتالية:
ويمكن تتبعها في مرحلتين رئيسيتين: الأولى وهي مرحلة تمهيدية وتجريب عملياتي توافرت فيه عناصر التحالف والدعم وإن لم تكن قسد قد تأسست بشكل رسمي، والثانية هي مرحلة الوجود الرسمي الفعلي لقسد.
1. المرحلة التمهيدية:
- معركة كوباني (عين العرب) 2014-2015: نشبت بين تنظيم داعش إبَّان تمدده ووحدات حماية الشعب. وهي التي سبقت تشكيل قسد، لكنها قادحة شرارة هذا التشكيل، وقد شكلت نموذجاً ومختبراً عملياتياً له.
أطلق تنظيم داعش حملة عسكرية على مدينة عين العرب (كوباني) بتاريخ 13 أيلول/سبتمبر 2014، وتمكن من التقدم والسيطرة حتى أتم حصار المدينة، ثم دخل بعض أحيائها، حينها تدخلت إلى جانب وحدات حماية الشعب فصائلُ من المعارضة المسلحة ووحدات من قوات البيشمركة التابعة لإقليم كردستان العراق عبر الأراضي التركية بموافقة الحكومة التركية، شهدت هذه المعركة مشاركة طيران التحالف الدولي، وانتهت بخسارة تنظيم داعش وانسحابه يوم 15/3/201562.
- معركة تل أبيض 2015: شنتها وحدات حماية الشعب على رأس تحالف فصائل "بركان الفرات" في شهر أيار/مايو 2015 لانتزاع مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا من تنظيم داعش. جاءت هذه المعركة في إثر معركة كوباني لاستغلال معنويات النصر وزخم التحالفات، وقد توفر فيها ما توفر في كوباني من تحالفات فصائلية ميدانية ودعم جوي من طيران التحالف، غبر أنها كانت هجومية بخلاف سابقتها الدفاعية. انتهت المعركة في شهر آب/أغسطس 2015 بانتزاع كامل الشريط الحدودي من مدينة كوباني غرباً إلى المالكية (ديريك) شرقاً63.
شكلت معركة تل أبيض بداية انحسار تنظيم داعش، وفيها نضجت عملياً فكرة تشكيل قوات سورية الديمقراطية فكان الإعلان الرسمي عن تأسيسها بعد المعركة بأقل من شهرين، وكانت من ضمن المؤسسين فصائل غرفة عمليات "بركان الفرات" ذاتها التي شاركت في هذه المعركة.
2. مرحلة قسد:
سارعت الولايات المتحدة الأمريكية مع إعلان تشكيل قوات سورية الديمقراطية إلى دعمها بالأسلحة والذخائر، وبالتدريب والتأهيل العسكري، ثم بمستشارين عسكريين لزيادة فاعلية التنسيق العسكري والتخطيط العملياتي64، مع زيادة التحالف الدولي لغاراته الجوية على مواقع تنظيم داعش65. هذا كله أدى إلى رفع قدرات قسد الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية كما سنرى من استعراض أهم المعارك التي خاضتها.
- الحرب على داعش: خاضت قسد معارك متتالية مع تنظيم داعش من لحظة تأسيسها في تشرين الأول/أكتوبر 2015 وحتى هزيمة التنظيم في آذار/مارس 2019، وقد "أدت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً، إن لم يكن الدور الأهم، في محاربة تنظيم الدولة في سورية."66
وسنعرض تالياً أبرز المعارك والعمليات العسكرية في هذه الحرب:
- معركة الهول 2015: استمرت أسبوعين، من 30 تشرين الاول/ أكتوبر 2015 حتى 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وفيها تقدمت قسد في ريف الحسكة الجنوبي حتى سيطرت عل بلدة الهول الاستراتيجية67. تزامنت هذه المعركة مع عمل عسكري من القوات العراقية على التنظيم في منطقتي شنكال وسنجار العراقيتين المقابلتين لريف الحسكة الجنوبي68.
- معركة سد تشرين 2015: شنتها قسد من جنوب عين العرب (كوباني) في 23 كانون الأول/ديسمبر 2015 وتمكنت في غضون ثلاثة أيام من السيطرة على الضفة الشرقية من سد تشرين الإستراتيجي على نهر الفرات، بوابة منبج وكامل ريف حلب الشمالي من الشرق69، وبعدها بيومين استطاعت تأمين الضفة الغربية، وبذلك استطاعت قسد عبور الفرات لأول مرة من شرقه إلى غربه70.
- معركة الشدادة 2016: أطلقت قسد عملاً عسكرياً بستة آلاف مقاتل على مدينة الشدادة في ريف الحسكة الجنوبي في 16 شباط/فبراير 2016، من محورين رئيسيين: من الشمال الغربي من جبال عبد العزيز، ومن الشمال الشرقي من بلدة الهول. استغرقت المعركة تسعة أيام وانتهت بانتزاع المدينة الإستراتيجية من تنظيم داعش مع مساحات واسعة حولها. تنبَّهت قسد في هذه المعركة إلى الحساسيات العرقية إذ المنطقة عربية عشائرية، فأشركت ما بين نصف القوات المهاجمة إلى ثلثيها من المقاتلين العرب. وكانت هذه أول معركة تشهد مشاركة ميدانية من المستشارين العسكريين الأمريكيين71.
- معركة منبج 2016: من أبرز المعارك وأعقدها عملياتياً حتى وقتها، بدأت بهجومٍ تضليليٍ على الرقة من شمالها لصرف انتباه التنظيم إلى عاصمته وتشتيت قواته. وبعدها بأيام انطلقت معركة منبح في ليلة الأول من حزيران/يونيو 2016 بعبور ثمانمائة مقاتل نهر الفرات عند نقطة قرب جسر قرة قوزاق المدمر حينها، بينما كان ألف وخمسمائة مقاتل آخرين يجوزون سدَ تشرين، تحت تغطية جوية ومدفعية كثيفة، واستطاعت القوات المهاجمة تثبيت مواقعهم على الضفة الغربية وتأمين مرور مزيدٍ من القوات عبر جسور مؤقتة بُنيت لذلك. تمكنت القوات المهاجمة من تطويق مدينة منبج في 11 حزيران/يونيو ليستمر بعدها القتال العنيف مع التنظيم شهرين كاملين حتى استسلمت قوات داعش وسُمِح لها بالخروج من المدينة إلى جرابلس في 12 آب/أغسطس 201672. شاركت التشكيلات العربية بحوالي ثلثي القوات المهاجمة في هذه المعركة73.
- انتزاع الرقة (حملة غضب الفرات) 2016 – 2017: أم المعارك ضد داعش، استمرت نحواً من عام، بدأت في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وانتهت في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2017، وكانت بتخطيط إستراتيجي وعملياتي من الولايات المتحدة74. يمكن تحقيبها إلى فترتين رئيسيتين:
- معارك عزل الرقة: هدفت إلى تهييئ البيئة الإستراتيجية لانتزاع عاصمة التنظيم. فتحت قسد فيها ثلاثة محاور باتجاه مدينة الرقة: الأول من الشمال من عين عيسى، والثاني من الشمال الغربي من منبج وسد تشرين، والثالث من الشمال الشرقي من الحسكة. دامت المعارك قريباً من سبعة أشهر حتى نهاية أيار/مايو 2017 حققت فيها قسد نجاحات عسكرية، أهمها السيطرة على مدينة الطبقة وسد الفرات، وتمكنت في نهايتها من الاطباق على الرقة من ثلاث جهات: الشمال والشرق والغرب. زادت الولايات المتحدة في هذه المرحلة من جنودها على الأرض، واختبرت قسد فيها لأول مرة عمليات الإنزال الجوي بواسطة الطيران الأمريكي75.
- معركة الاستيلاء على الرقة 2017: حشدت قسد أكثر من 35000 مقاتل لاقتحام عاصمة تنظيم داعش ضمن حملة عسكرية خططت لها قوة المهام المشتركة "عملية العزم الصلب" بقيادة الولايات المتحدة. انطلقت الحملة في 6 حزيران/يونيو 2017 وشملت خمس مراحل عملياتية على مدة أربعة أشهر ونصف انتهت في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2017 بتسوية سمحت بخروج مقاتلي داعش وعائلاتهم محتفظين بأسلحتهم وذخيرتهم، وذلك لما أبدوه من شراسة وبسالة في القتال داخل المدينة على الرغم من وقوعها تحت الحصار ما يقارب الأربعة أشهر من عمر الحملة وتحديداً من 24 حزيران/يونيو 2017. شاركت في هذه المعركة إلى جانب قسد قوات من الجيوش الأمريكية والغربية عددها ما بين 3000 إلى 5000، منهم 500 من القوات الخاصة الأمريكية ووحدات من القوات الخاصة البريطانية والألمانية والفرنسية، بالإضافة إلى الإسناد الجوي والمدفعي الكثيف76. خسرت قسد في هذه المعركة ما يزيد على 650 مقاتل77.
- معركة الباغوز 2019: آخر معارك قسد ضد تنظيم داعش. سبقتها تقدمات هائلة لقسد في محافظة دير الزور شرق الفرات، حتى اضطرت التنظيم إلى جيب في بلدة الهجين جنوبيَّ شرقي المحافظة، ثم استمرت بالضغط عليه حتى حاصرته في بلدة الباغوز الفوقاني والتي أوى إليها كل من بقي من مقاتلي التنظيم في سورية فأضحت مدينة خيام ضخمة. بدأت الحملة على الباغوز في 9 شباط/فبراير 2019 وانتهت في 23 آذار/مارس 2019 باستسلام تنظيم داعش وانتهاء دولته في سورية78.
- المعارك ضد تركيا وحلفائها: خاضت قسد معركتين كبيرتين ضد تشكيلات من المعارضة السورية تدعمهم وتترأسهم القوات المسلحة التركية، وكانت في كلتيهما في موقع المدافع. وانتهت بالخسارة.
- غصن الزيتون 2018: أطلقت القوات المسلحة التركية بمشاركة فصائل "الجيش الوطني السوري" عملية عسكرية بتاريخ 20 كانون الأول/يناير 2018 ضد قوات سورية الديمقراطية في كانتون عفرين أقصى شمال غرب سورية والذي تبلغ مساحته ما يقارب 1750 كم279. ضمت القوات المهاجمة 7 آلاف مقاتل من الفصائل السورية ومعهم ألف جندي من الجيش التركي وتغطية جوية ونارية، في مواجهة 8 – 10 آلاف مقاتل من قسد80. ومع انقضاء شهرين من المعركة كانت القوات المهاجمة قد سيطرت على مدينة عفرين مركز المنطقة ومعها أغلب مناطق الكانتون، ولكن الحملة كاملةً استمرت قرابة 4 أشهر، وانتهت بطرد قسد من كامل جيب عفرين81. امتنعت الولايات المتحدة عن دعم قوات سورية الديمقراطية في هذه المعركة.
- نبع السلام: كما في سابقتها، نفذ الجيش التركي وفصائل "الجيش الوطني السوري" في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019، عملية عسكرية ضد قسد في المناطق الحدودية شرقي الفرات، انتهت المعركة بسيطرة القوات المهاجمة على شريط حدودي يمتد بطول أكثر من 100 كيلومتر، من تل أبيض في ريف الرقة الشمالي إلى رأس العين في ريف الحسكة، وبعرض 30 كيلومتر تقريباً. استمرت العملية شهراً وأسبوعاً وانتهت باتفاق سياسي تركي روسي بعد أن لجأت قسد إلى موسكو لتوفير مظلة سياسية لها نتيجة إعراض الولايات المتحدة عنهم في هذه العملية أيضاً، حتى أنها سحبت قواتها من منطقة العملية قبل بدايتها82.
- الاصطدام بفاغنر 2018: في مساء 7 شباط/فبراير 2018 هاجم نحو 500 مقاتل من شركة فاغنر العسكرية الخاصة الروسية وعناصر موالية للنظام السوري معملَ كونيكو للغاز في مناطق سيطرة قسد في ريف دير الزور والذي تحرسه عناصرها مع قوات أمريكية. أطلقت القوات الأمريكية بادئ الأمر مدفعية تحذيرية وظلت تحاول لخمس عشرة دقيقة الاتصالَ بالقوات الروسية النظامية عبر خلية فض الاشتباك، ولكن دون رد. عندها دخل الطيران الأمريكي سماء المعركة وحسمها في غضون ساعتين، مُكبداً القوات المهاجمة 100 – 300 قتيل. كان تدخل قوات قسد في هذا الاشتباك هامشياً83.
- انتفاضة العشائر 2023: اندلعت اشتباكات بين قسد وعشيرة العكيدات العربية أواخر آب/أغسطس 2023 في ريف دير الزور الشمالي والشرقي، خسرت فيها قسد أول أمرها لكنها سرعان ما تداركت الوضع وبسطت سيطرتها مجددا بعد حوالي أسبوعين من القتال، إذ لم تجد الثورة العشائرية غطاءً سياسياً أو داعماً يستثمرها84. أكثر من استخدمتهم قسد في قمع هذه الانتفاضة العشائرية كان "لواء الشمال الديمقراطي" ذو الخلفية العربية غير العشائرية والذي ينحدر مقاتلوه من محافظة ادلب85.
- معارك تحرير سورية 2024: مع انطلاق عملية ردع العدوان العسكرية والتي تتوجت بإسقاط نظام بشار الأسد ودخول دمشق يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أطلقت تشكيلات معارضة مسلحة حملة عسكرية موازية من ريف حلب الشمالي تحت اسم "فجر الحرية" وكان نطاق عملياتها محافظة حلب بما فيها مناطق سيطرة قسد. اندلعت اشتباكات بين الطرفين في جيب تل رفعت ومنطقة منبج وريف حلب الشرقي والجنوبي الذي تقدمت فيه قسد مع انسحاب قوات الأسد. نتج عن هذه المعارك خسارة قسد لمنطقة منبج وجيب تل رفعت86، مع بقاء موطئ قدم صغير لها في حيي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب87، واستطاعت تثبيت خطوط تماس جديدة في ريف حلب الجنوبي مع استمرار المناوشات والأعمال القتالية بينها وبين الجيش السوري الجديد حتى بعد التوصل لاتفاق العاشر من آذار88. وعلى جبهة أخرى، حاولت قوات ردع العدوان اجتياز نهر الفرات في محافظة دير الزور إلى مناطق قسد غير أن طيران التحالف حلق فوقهم في إشارة إلى منع العبور89.
عاشراً: خاتمة وتوصيات:
أكملت قوات سورية الديمقراطية عشر سنوات من عمرها، أثبتت فيها نفسها على الجغرافيا السورية كواحدٍ من أرسخ الفاعلين الذين أفرزتهم سنوات الثورة، ولا زالت بعد سقوط نظام الأسد الفصيل الوحيد الذي ينازع الدولة السورية الجديدة السيادة على مناطق نفوذها. راكمت قسد عبر سني وجودها خبرات قتالية مميزة، إذ خاضت معارك كثيرة ضد جيوش نظامية ومجموعات غير نظامية وتحالفات بينهما، واختبرت المناورات العسكرية المشتركة مع قوات نظامية وكانت رأس الحربة في إنهاء دولة داعش في سورية، ومارست مستوى عالياً من الإستراتيجية العسكرية بتجميعها مجموعات مسلحة من خلفيات متباينة حول مركز "وحدات حماية الشعب"، بالإضافة إلى العمل الأمني على مستويات شتى. ويبقى أكبر مكاسبها وأهم أسباب بقائها هي المظلة الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، والتي أضحت بها لاعباً يرغب إليه عديد الفاعلين لإدارة مصالحهم في المنطقة.
توصي الورقة بما يلي:
- لا بد من العمل الأمني والاستخباري لتعظيم الشقوق بين مكونات قسد وتحييد بعضها، إذ يوجد الكثير من نقاط الافتراق بينهم.
- إدارة حرب إعلامية فاعلة، تؤثر في مقاتل قسد، وتصرف عنها الدعم الشعبي.
- إعادة تقييم المسارات التفاوضية التي ترعاها الولايات المتحدة، إذ يحتمل أن تكون مسارات للتضليل الاستراتيجي، فقسد ذراع للولايات المتحدة وأكثر موثوقية عندها من الحكومة الجديدة.
- تفعيل عمليات القوات الخاصة خلف خطوط التماس، لإبقاء الضغط على قسد.
- سحب ورقة تمثيل الكرد من قسد بالسماح لهم بالتعبير عن ثقافتهم حتى خارج مناطقهم، وإنشاء منصات كردية وإبراز شخصيات كردية بعيدة عن غلواء القومية.
- نموذج حوكمة رشيد في سورية يشد المدنيين في مناطق قسد إلى الحكومة السورية، ويزيد من سخطهم على قسد.

