فرضت تحولات طبيعة النزاعات المسلحة، المعتمدة على الذكاء الصناعي والطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، تحدياتٍ جوهرية على مفهوم البنية التحتية العسكرية التقليدية، ما جعل القواعد الضخمة والثابتة عبئاً أمنياً أكثر منها ميزة استراتيجية.
هذا الواقع دفع العديد من الجيوش إلى تطوير مفهوم "القواعد العسكرية المرنة"، التي تقوم على المرونة، قابلية التنقل، وسرعة الإنشاء والتفكيك، والتكيف مع البيئة المحيطة، حيث تُمثل هذه القواعد نموذجاً بديلاً للبنية التحتية الدفاعية التقليدية، إذ تجمع بين الكلفة المنخفضة وسرعة الإنشاء أو التفكيك، مع توفير مستويات مقبولة من الحماية والقدرة العملياتية.
يهدف هذا المقال إلى استعراض خصائص القواعد المرنة، أنواعها، المواد والتقنيات المستخدمة في بنائها، ثم مناقشة إمكانية تطبيقها في السياق السوري في ظل تحديات وتهديدات أمنية شائكة وصعبة.
تقوم القواعد العسكرية المرنة على مجموعة من الخصائص التي تجعلها أكثر ملاءمة لبيئات النزاع المُعاصر، حيث تتراجع جدوى القواعد التقليدية الضخمة أمام قدرات الاستهداف الدقيقة. أول هذه الخصائص هي القابلية للتنقل والانتشار السريع، إذ تُصمَّم الوحدات والمرافق بحيث يمكن نقلها جواً أو براً وإعادة تركيبها في مواقع مختلفة خلال فترة قصيرة، وهو ما يمنح القوات نوعاً ما القدرة على تغيير مواقعها وتجنب رصدها من قبل الخصوم1.
هذا المفهوم طوّرته الولايات المتحدة ضمن عقيدة "التمركز القتالي المرن" "Agile Combat Employment" في المحيط الهادئ، ما سمح لها بتحريك وحدات جوية من قاعدة إلى أخرى لتفادي الاستهداف الصاروخي الصيني وضمان بقاء القدرة القتالية فعالة.
ثاني هذه الخصائص هي: قابلية التوسع أو الانكماش تبعاً للمهام العملياتية، حيث يمكن أن تبدأ القاعدة كوحدة صغيرة لدعم دورية أو عملية خاصة ثم تتوسع لتشمل مستشفى ميداني أو مهبط مروحيات حسب الحاجة2. حيث تقوم على مبدأ التوزع بدل التمركز، أي إنشاء شبكة من النقاط الصغيرة بدلاً من الاعتماد على قاعدة مركزية ضخمة.
هذا التوزع يخفّض من قيمة الهدف بالنسبة للعدو ويجعل استهدافه مكلفاً. وهي طريقة اعتمدها حلف شمال الأطلسي "ناتو" في شرق أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك على نقاط مرنة موزعة في بولندا ودول البلطيق بدل قواعد ضخمة مكشوفة3.
ومن السمات الجوهرية أيضاً لهذه القواعد التخفّي وتقليل البصمة اللوجستية، إذ يجري اعتماد مواد بناء سريعة التركيب مثل الهياكل القابلة للنفخ، الحاويات الجاهزة، والخرسانة سريعة التصلب، بما يقلل من حجم المعدات اللازمة ويجعل القاعدة أقل وضوحاً على صور الأقمار الصناعية4. يذكر أن القوات الأميركية في العراق وأفغانستان استخدمت ما يسمى "أنظمة الملاجئ المتقدمة" "Expeditionary Shelter Systems" القابلة للنفخ والحاويات المعيارية لتجهيز قواعد أمامية خلال أيام قليلة، مع إمكانية تفكيكها ونقلها عند الضرورة5.
كذلك لجأت القوات الفرنسية في مالي إلى خيام مدعومة وحاويات مسبقة الصنع لتقليل الأثر البصري واللوجستي للانتشار في بيئة صحراوية مفتوحة6. أخيراً، تتسم هذه القواعد بقدرتها على الاندماج مع البيئة المحلية من خلال الاستفادة من العمارة أو الموارد المتاحة في المكان، وهو ما يقلل الكلفة التشغيلية ويعزز القبول الاجتماعي.
يمكن تصنيف القواعد العسكرية المرنة إلى عدة أنواع رئيسة تختلف في بنيتها ووظيفتها، لكنها تشترك في الهدف العام المتمثل في تعزيز القدرة على المناورة وتقليل مخاطر الاستهداف. النوع الأول هو القواعد المؤقتة "Temporary Forward Operating Bases" وهي مواقع تُنشأ بسرعة لدعم عمليات محدودة زمنياً مثل دوريات حدودية أو عمليات خاصة، وغالباً ما تعتمد على حاويات جاهزة أو هياكل قابلة للنفخ يمكن تفكيكها خلال أيام أو أسابيع7.
واستخدم هذا الأسلوب الجيش التركي في القواعد العسكرية المؤقتة في شمال سوريا بعد عملية "درع الفرات" عام 2016، حيث أنشأ الجيش التركي نقاط انتشار متقدمة في ريف حلب الشمالي باستخدام وحدات جاهزة وحاويات متنقلة لدعم الدوريات والعمليات الخاصة، قبل أن يجري تفكيك بعضها أو تحويلها إلى مواقع أكثر ديمومة8، كترقية إلى النوع الثاني وهي القواعد الهجينة "Hybrid or Semi-Permanent Bases" التي تجمع بين عناصر الاستقرار والبنية التحتية الأساسية وبين قابلية الحركة الجزئية. وعادة ما تُبنى هذه القواعد بمواد أكثر صلابة، وتستضيف مستودعات أو مراكز قيادة، لكنها تُصمَّم بحيث يمكن تقليصها أو تعزيزها وفق الحاجة9.
كما اعتمدت القوات الأميركية على نموذج مشابه في قاعدة التنف ضمن البادية السورية، لتوفير دعم عملياتي في بيئة معزولة وتحت تهديد دائم، ما يُبرهن على جدوى هذا النموذج في بيئات شبيهة.
أما النوع الثالث فيتمثل في القواعد الموزعة "Dispersed or Distributed Bases" حيث يجري نشر وحدات صغيرة في عدة مواقع بدلاً من قاعدة مركزية واحدة، الأمر الذي يزيد من صعوبة تدمير القدرات الجوية أو البرية بضربة واحدة ويمنح مرونة في إعادة الانتشار10.
ولم يقتصر ذلك على القوات البرية فقط، بل برز في العقود الأخيرة نموذج القواعد البحرية/الساحلية المتقدمة المعروفة باسم "القاعدة المتقدمة الاستطلاعية" "Expeditionary Advanced Base" الذي طوّره سلاح مشاة البحرية الأميركي، حيث تُقام مواقع صغيرة على جزر أو سواحل بهدف دعم عمليات بحرية وجوية، مع الاعتماد على الإخفاء والمرونة بدلاً من الدفاعات الثقيلة.
تتطلب القواعد العسكرية المرنة حلولاً مبتكرة في مجال البناء، إذ إن الهدف ليس إقامة منشآت دائمة، بل توفير بنية تحتية عملية وسريعة التركيب، يمكن تفكيكها أو نقلها بحسب متطلبات العمليات. ومن أبرز المواد المستخدمة الهياكل الجاهزة المبنية من الحاويات "Containerized Units"، حيث توفّر هذه الوحدات مساكن، مكاتب قيادة، وحتى مراكز طبية صغيرة، بفضل سهولة النقل عبر الشاحنات أو الطائرات11.
كذلك يتم الاعتماد على الهياكل القابلة للنفخ (Inflatable Shelters) المصنوعة من أقمشة صناعية مقاومة، تُستخدم كمستودعات للطائرات أو كمراكز صيانة مؤقتة، وتمتاز بخفة وزنها وسرعة نصبه12. أما في البيئات الأكثر صعوبة، برزت أهمية الخرسانة سريعة التصلب "Rapid-Setting Concrete" والمواد المركّبة مثل الألياف الزجاجية والكربونية، إذ تسمح ببناء مدارج قصيرة للطائرات أو تحصينات دفاعية خلال ساعات13.
وتُستخدم أيضاً الأنظمة المعيارية "Modular Construction Systems" التي تقوم على مكونات معيارية يمكن تجميعها وتفكيكها بسهولة، ما يمنح القواعد قدرة على التوسع أو الانكماش دون الحاجة إلى إعادة بناء كاملة14.
أما من ناحية توفير الطاقة فإن أغلب الجيوش الحديثة تعتمد على أنظمة الطاقة البديلة مثل الألواح الشمسية أو المولدات الهجيبة، لتقليل الاعتماد على سلاسل الإمداد التقليدية الطويلة وجعل القواعد أكثر استدامة ومرونة.
إضافة لذلك يجري دمج الحلول الرقمية في القواعد، مثل أنظمة المراقبة المحمولة، والشبكات التكتيكية اللاسلكية، مما يجعل القاعدة قادرة على أداء مهام القيادة والسيطرة حتى في حال العزلة.
وأخيراً، برز اتجاه متزايد نحو الاستفادة من الموارد والمواد المحلية "indigenous materials"، مثل استخدام الطين المضغوط أو الخشب المحلي في بناء هياكل داعمة، الأمر الذي يقلل الكلفة اللوجستية ويزيد من قابلية الاندماج في البيئة.
تفرض طبيعة النزاع والتحديات الأمنية والعسكرية في سوريا معادلة مختلفة تجعل القواعد المرنة خياراً أكثر واقعية من الاعتماد على القواعد التقليدية. فالاستهداف الإسرائيلي المتكرر للمنشآت الثابتة والمعروفة كشف هشاشة نموذج القاعدة المركزية، وأبرز الحاجة إلى بنية تحتية عسكرية أكثر قدرة على التوزع والاختفاء.
اعتمدت القواعد العسكرية للنظام السابق كانت تحتل مساحات واسعة، وغالباً ما أُنشئت على أراضٍ تعود ملكيتها لمدنيين، ما جعلها عبئاً اجتماعياً واقتصادياً على المجتمعات المحلية. كذلك فإن فلسفة بناء تلك القواعد ارتبطت بطبيعة التهديدات التي واجهها النظام، حيث ركّزت بالدرجة الأولى على السيطرة الداخلية على مناطق معينة، في حين أن الجيش الجديد يحتاج إلى هندسة عسكرية مختلفة تستجيب للتهديدات الخارجية والداخلية على حد سواء.
على الصعيد المحلي يمكن للجيش السوري أن يستفيد من نموذج القواعد الموزعة في الشمال الشرقي حيث تهيمن قوات سوريا الديمقراطية، وذلك لتقليص المخاطر المرتبطة بتركز القدرات في مواقع محدودة.
وفي الجنوب، حيث تنتشر ميليشيات الهجري وفصائل محلية متغيرة الولاء بالإضافة الى للخطر الإسرائيلي، قد يكون تبنّي القواعد المرنة والهجينة وسيلة لضبط الأمن مع مرونة تكفي لإعادة التموضع عند تبدل الصفوف وتقلل من الخسائر في حال استهداف الجوي والصاروخي من قبل اسرائيل. أما في الساحل، حيث تشكل فلول المجموعات المسلحة خطراً متجدداً، فإن إقامة مواقع مرنة صغيرة متعددة تتيح احتواء التهديد من دون تكبيل الموارد في قاعدة ضخمة.
إن تطبيق نموذج القواعد المرنة في سوريا قد يفتح مساراً عملياً لإعادة بناء مؤسسة عسكرية أكثر قدرة على التكيّف مع الضغوط الداخلية والخارجية ومرونة في حال تبدل المخاطر. هذا النموذج يعيد للجيش الوطني وظيفته الأساسية في الحماية بدل أن يبقى هدفاً ثابتاً في ساحة صراع مفتوحة. خصوصاً أن الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية المتكررة ضد القواعد العسكرية الكبيرة والمعروفة، أظهرت هشاشة الحماية على الرغم ما قد تتمتع به من تحصينات ذات كفاءة عالية، ولم تتمكن من الصمود أمام القدرات الهجومية المتطورة للعدو.
أخيراً، تشير التجارب الدولية إلى أن القواعد العسكرية المرنة لم تعد خياراً ثانوياً بل ضرورة فرضتها طبيعة الحروب الحديثة، حيث يتقدم عنصر التكيف والقدرة على المناورة على فكرة التحصين الثابت. وفي الحالة السورية، حيث تتقاطع التهديدات الخارجية مع الانقسامات الداخلية، يشكل تبنّي هذا النموذج فرصة لإعادة صياغة العقيدة الدفاعية على أسس أكثر واقعية.
وبالتالي فإن الاعتماد على القواعد المرنة مع القواعد المركزية، يمكن أن يمنح الجيش السوري القدرة على الصمود والمبادرة في آن واحد. وبذلك، تصبح القواعد المرنة أداة استراتيجية لإعادة بناء المؤسسة العسكرية بما يتلاءم مع واقع الجغرافيا والتهديدات، ويحولها من عبء مكشوف إلى شبكة حماية متنقلة تدعم استقرار الدولة ومستقبلها الأمني.
________________________
هذا الواقع دفع العديد من الجيوش إلى تطوير مفهوم "القواعد العسكرية المرنة"، التي تقوم على المرونة، قابلية التنقل، وسرعة الإنشاء والتفكيك، والتكيف مع البيئة المحيطة، حيث تُمثل هذه القواعد نموذجاً بديلاً للبنية التحتية الدفاعية التقليدية، إذ تجمع بين الكلفة المنخفضة وسرعة الإنشاء أو التفكيك، مع توفير مستويات مقبولة من الحماية والقدرة العملياتية.
يهدف هذا المقال إلى استعراض خصائص القواعد المرنة، أنواعها، المواد والتقنيات المستخدمة في بنائها، ثم مناقشة إمكانية تطبيقها في السياق السوري في ظل تحديات وتهديدات أمنية شائكة وصعبة.
الخصائص الجوهرية للقواعد المرنة
تقوم القواعد العسكرية المرنة على مجموعة من الخصائص التي تجعلها أكثر ملاءمة لبيئات النزاع المُعاصر، حيث تتراجع جدوى القواعد التقليدية الضخمة أمام قدرات الاستهداف الدقيقة. أول هذه الخصائص هي القابلية للتنقل والانتشار السريع، إذ تُصمَّم الوحدات والمرافق بحيث يمكن نقلها جواً أو براً وإعادة تركيبها في مواقع مختلفة خلال فترة قصيرة، وهو ما يمنح القوات نوعاً ما القدرة على تغيير مواقعها وتجنب رصدها من قبل الخصوم1.
هذا المفهوم طوّرته الولايات المتحدة ضمن عقيدة "التمركز القتالي المرن" "Agile Combat Employment" في المحيط الهادئ، ما سمح لها بتحريك وحدات جوية من قاعدة إلى أخرى لتفادي الاستهداف الصاروخي الصيني وضمان بقاء القدرة القتالية فعالة.
ثاني هذه الخصائص هي: قابلية التوسع أو الانكماش تبعاً للمهام العملياتية، حيث يمكن أن تبدأ القاعدة كوحدة صغيرة لدعم دورية أو عملية خاصة ثم تتوسع لتشمل مستشفى ميداني أو مهبط مروحيات حسب الحاجة2. حيث تقوم على مبدأ التوزع بدل التمركز، أي إنشاء شبكة من النقاط الصغيرة بدلاً من الاعتماد على قاعدة مركزية ضخمة.
تقوم القواعد العسكرية المرنة على مبدأ التوزع بدل التمركز، أي إنشاء شبكة من النقاط الصغيرة.
هذا التوزع يخفّض من قيمة الهدف بالنسبة للعدو ويجعل استهدافه مكلفاً. وهي طريقة اعتمدها حلف شمال الأطلسي "ناتو" في شرق أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك على نقاط مرنة موزعة في بولندا ودول البلطيق بدل قواعد ضخمة مكشوفة3.
ومن السمات الجوهرية أيضاً لهذه القواعد التخفّي وتقليل البصمة اللوجستية، إذ يجري اعتماد مواد بناء سريعة التركيب مثل الهياكل القابلة للنفخ، الحاويات الجاهزة، والخرسانة سريعة التصلب، بما يقلل من حجم المعدات اللازمة ويجعل القاعدة أقل وضوحاً على صور الأقمار الصناعية4. يذكر أن القوات الأميركية في العراق وأفغانستان استخدمت ما يسمى "أنظمة الملاجئ المتقدمة" "Expeditionary Shelter Systems" القابلة للنفخ والحاويات المعيارية لتجهيز قواعد أمامية خلال أيام قليلة، مع إمكانية تفكيكها ونقلها عند الضرورة5.
كذلك لجأت القوات الفرنسية في مالي إلى خيام مدعومة وحاويات مسبقة الصنع لتقليل الأثر البصري واللوجستي للانتشار في بيئة صحراوية مفتوحة6. أخيراً، تتسم هذه القواعد بقدرتها على الاندماج مع البيئة المحلية من خلال الاستفادة من العمارة أو الموارد المتاحة في المكان، وهو ما يقلل الكلفة التشغيلية ويعزز القبول الاجتماعي.
الأنواع الرئيسة للقواعد المرنة
يمكن تصنيف القواعد العسكرية المرنة إلى عدة أنواع رئيسة تختلف في بنيتها ووظيفتها، لكنها تشترك في الهدف العام المتمثل في تعزيز القدرة على المناورة وتقليل مخاطر الاستهداف. النوع الأول هو القواعد المؤقتة "Temporary Forward Operating Bases" وهي مواقع تُنشأ بسرعة لدعم عمليات محدودة زمنياً مثل دوريات حدودية أو عمليات خاصة، وغالباً ما تعتمد على حاويات جاهزة أو هياكل قابلة للنفخ يمكن تفكيكها خلال أيام أو أسابيع7.
واستخدم هذا الأسلوب الجيش التركي في القواعد العسكرية المؤقتة في شمال سوريا بعد عملية "درع الفرات" عام 2016، حيث أنشأ الجيش التركي نقاط انتشار متقدمة في ريف حلب الشمالي باستخدام وحدات جاهزة وحاويات متنقلة لدعم الدوريات والعمليات الخاصة، قبل أن يجري تفكيك بعضها أو تحويلها إلى مواقع أكثر ديمومة8، كترقية إلى النوع الثاني وهي القواعد الهجينة "Hybrid or Semi-Permanent Bases" التي تجمع بين عناصر الاستقرار والبنية التحتية الأساسية وبين قابلية الحركة الجزئية. وعادة ما تُبنى هذه القواعد بمواد أكثر صلابة، وتستضيف مستودعات أو مراكز قيادة، لكنها تُصمَّم بحيث يمكن تقليصها أو تعزيزها وفق الحاجة9.
يمكن تصنيف القواعد العسكرية المرنة إلى عدة أنواع رئيسة تختلف في بنيتها ووظيفتها.
كما اعتمدت القوات الأميركية على نموذج مشابه في قاعدة التنف ضمن البادية السورية، لتوفير دعم عملياتي في بيئة معزولة وتحت تهديد دائم، ما يُبرهن على جدوى هذا النموذج في بيئات شبيهة.
أما النوع الثالث فيتمثل في القواعد الموزعة "Dispersed or Distributed Bases" حيث يجري نشر وحدات صغيرة في عدة مواقع بدلاً من قاعدة مركزية واحدة، الأمر الذي يزيد من صعوبة تدمير القدرات الجوية أو البرية بضربة واحدة ويمنح مرونة في إعادة الانتشار10.
ولم يقتصر ذلك على القوات البرية فقط، بل برز في العقود الأخيرة نموذج القواعد البحرية/الساحلية المتقدمة المعروفة باسم "القاعدة المتقدمة الاستطلاعية" "Expeditionary Advanced Base" الذي طوّره سلاح مشاة البحرية الأميركي، حيث تُقام مواقع صغيرة على جزر أو سواحل بهدف دعم عمليات بحرية وجوية، مع الاعتماد على الإخفاء والمرونة بدلاً من الدفاعات الثقيلة.
المواد والتقنيات المستخدمة في بناء القواعد المرنة
تتطلب القواعد العسكرية المرنة حلولاً مبتكرة في مجال البناء، إذ إن الهدف ليس إقامة منشآت دائمة، بل توفير بنية تحتية عملية وسريعة التركيب، يمكن تفكيكها أو نقلها بحسب متطلبات العمليات. ومن أبرز المواد المستخدمة الهياكل الجاهزة المبنية من الحاويات "Containerized Units"، حيث توفّر هذه الوحدات مساكن، مكاتب قيادة، وحتى مراكز طبية صغيرة، بفضل سهولة النقل عبر الشاحنات أو الطائرات11.
كذلك يتم الاعتماد على الهياكل القابلة للنفخ (Inflatable Shelters) المصنوعة من أقمشة صناعية مقاومة، تُستخدم كمستودعات للطائرات أو كمراكز صيانة مؤقتة، وتمتاز بخفة وزنها وسرعة نصبه12. أما في البيئات الأكثر صعوبة، برزت أهمية الخرسانة سريعة التصلب "Rapid-Setting Concrete" والمواد المركّبة مثل الألياف الزجاجية والكربونية، إذ تسمح ببناء مدارج قصيرة للطائرات أو تحصينات دفاعية خلال ساعات13.
تتطلب القواعد العسكرية المرنة حلولاً مبتكرة في مجال البناء، إذ إن الهدف ليس إقامة منشآت دائمة.
وتُستخدم أيضاً الأنظمة المعيارية "Modular Construction Systems" التي تقوم على مكونات معيارية يمكن تجميعها وتفكيكها بسهولة، ما يمنح القواعد قدرة على التوسع أو الانكماش دون الحاجة إلى إعادة بناء كاملة14.
أما من ناحية توفير الطاقة فإن أغلب الجيوش الحديثة تعتمد على أنظمة الطاقة البديلة مثل الألواح الشمسية أو المولدات الهجيبة، لتقليل الاعتماد على سلاسل الإمداد التقليدية الطويلة وجعل القواعد أكثر استدامة ومرونة.
إضافة لذلك يجري دمج الحلول الرقمية في القواعد، مثل أنظمة المراقبة المحمولة، والشبكات التكتيكية اللاسلكية، مما يجعل القاعدة قادرة على أداء مهام القيادة والسيطرة حتى في حال العزلة.
وأخيراً، برز اتجاه متزايد نحو الاستفادة من الموارد والمواد المحلية "indigenous materials"، مثل استخدام الطين المضغوط أو الخشب المحلي في بناء هياكل داعمة، الأمر الذي يقلل الكلفة اللوجستية ويزيد من قابلية الاندماج في البيئة.
إمكانية تطبيق القواعد المرنة في السياق السوري
تفرض طبيعة النزاع والتحديات الأمنية والعسكرية في سوريا معادلة مختلفة تجعل القواعد المرنة خياراً أكثر واقعية من الاعتماد على القواعد التقليدية. فالاستهداف الإسرائيلي المتكرر للمنشآت الثابتة والمعروفة كشف هشاشة نموذج القاعدة المركزية، وأبرز الحاجة إلى بنية تحتية عسكرية أكثر قدرة على التوزع والاختفاء.
اعتمدت القواعد العسكرية للنظام السابق كانت تحتل مساحات واسعة، وغالباً ما أُنشئت على أراضٍ تعود ملكيتها لمدنيين، ما جعلها عبئاً اجتماعياً واقتصادياً على المجتمعات المحلية. كذلك فإن فلسفة بناء تلك القواعد ارتبطت بطبيعة التهديدات التي واجهها النظام، حيث ركّزت بالدرجة الأولى على السيطرة الداخلية على مناطق معينة، في حين أن الجيش الجديد يحتاج إلى هندسة عسكرية مختلفة تستجيب للتهديدات الخارجية والداخلية على حد سواء.
على الصعيد المحلي يمكن للجيش السوري أن يستفيد من نموذج القواعد الموزعة في الشمال الشرقي حيث تهيمن قوات سوريا الديمقراطية، وذلك لتقليص المخاطر المرتبطة بتركز القدرات في مواقع محدودة.
وفي الجنوب، حيث تنتشر ميليشيات الهجري وفصائل محلية متغيرة الولاء بالإضافة الى للخطر الإسرائيلي، قد يكون تبنّي القواعد المرنة والهجينة وسيلة لضبط الأمن مع مرونة تكفي لإعادة التموضع عند تبدل الصفوف وتقلل من الخسائر في حال استهداف الجوي والصاروخي من قبل اسرائيل. أما في الساحل، حيث تشكل فلول المجموعات المسلحة خطراً متجدداً، فإن إقامة مواقع مرنة صغيرة متعددة تتيح احتواء التهديد من دون تكبيل الموارد في قاعدة ضخمة.
تفرض طبيعة النزاع في سوريا معادلة مختلفة تجعل القواعد المرنة خياراً أكثر واقعية من القواعد التقليدية.
إن تطبيق نموذج القواعد المرنة في سوريا قد يفتح مساراً عملياً لإعادة بناء مؤسسة عسكرية أكثر قدرة على التكيّف مع الضغوط الداخلية والخارجية ومرونة في حال تبدل المخاطر. هذا النموذج يعيد للجيش الوطني وظيفته الأساسية في الحماية بدل أن يبقى هدفاً ثابتاً في ساحة صراع مفتوحة. خصوصاً أن الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية المتكررة ضد القواعد العسكرية الكبيرة والمعروفة، أظهرت هشاشة الحماية على الرغم ما قد تتمتع به من تحصينات ذات كفاءة عالية، ولم تتمكن من الصمود أمام القدرات الهجومية المتطورة للعدو.
الخاتمة
أخيراً، تشير التجارب الدولية إلى أن القواعد العسكرية المرنة لم تعد خياراً ثانوياً بل ضرورة فرضتها طبيعة الحروب الحديثة، حيث يتقدم عنصر التكيف والقدرة على المناورة على فكرة التحصين الثابت. وفي الحالة السورية، حيث تتقاطع التهديدات الخارجية مع الانقسامات الداخلية، يشكل تبنّي هذا النموذج فرصة لإعادة صياغة العقيدة الدفاعية على أسس أكثر واقعية.
وبالتالي فإن الاعتماد على القواعد المرنة مع القواعد المركزية، يمكن أن يمنح الجيش السوري القدرة على الصمود والمبادرة في آن واحد. وبذلك، تصبح القواعد المرنة أداة استراتيجية لإعادة بناء المؤسسة العسكرية بما يتلاءم مع واقع الجغرافيا والتهديدات، ويحولها من عبء مكشوف إلى شبكة حماية متنقلة تدعم استقرار الدولة ومستقبلها الأمني.

