ملخص تنفيذي
تهدف هذه الورقة إلى استشراف ملامح الجهاز الاستخباراتي السوري الجديد من خلال معالجة إرث الماضي وتقديم رؤية مستقبلية قائمة على أفضل الممارسات الدولية. تبدأ الورقة برصد الخلفية التاريخية التي حوّلت الاستخبارات السورية السابقة إلى أدوات قمع وسيطرة على المجتمع بدل أن تكون أجهزة لحماية الأمن الوطني. ثم تناقش أهمية الاستخبارات ودورها المحوري في حماية الدولة داخليًا وخارجيًا، خاصة في الحالة السورية التي تواجه بيئة داخلية مضطربة وصراعات إقليمية معقّدة. بعد ذلك، تستعرض الورقة ضرورة التمييز بين العمل الاستخباري والعمل الأمني لضمان وضوح الوظائف وتجنب تكرار الأخطاء السابقة، وتطرح الهيكلية المثلى التي تقوم على تعدد الأجهزة التخصصية تحت مظلة تنسيقية مركزية. كما تقدم مجموعة من التوصيات العملية تشمل وضع إطار قانوني صارم، بناء القدرات البشرية، اعتماد التكنولوجيا الحديثة، التعاون الدولي، تعزيز الرقابة الداخلية والخارجية، ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، وبناء سمعة إيجابية متصالحة مع المجتمع. وتخلص الورقة إلى أن نجاح هذه المهمة سيكون نقطة تحول إستراتيجية في مسار سورية نحو الاستقرار والنهضة.
مقدمة
شهدت سورية بعد سقوط النظام السابق لحظة مفصلية أعادت فتح ملف الأمن والاستخبارات من جديد، بعد عقود ارتبط فيها هذا القطاع بالقمع والهيمنة بدلًا من حماية الدولة والمجتمع. مع تشكيل حكومة انتقالية جديدة، برزت الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء منظومة استخباراتية مختلفة جذريًا في فلسفتها ووظيفتها. تتمثل الإشكالية الأساسية اليوم في كيفية صياغة جهاز استخبارات عصري يوازن بين متطلبات حماية الأمن الوطني وبين ضرورات الانتقال السياسي، بحيث لا يتحول إلى نسخة أخرى من الأجهزة القديمة، بل إلى مؤسسة مهنية تخضع للقانون وتستعيد ثقة المواطنين.
تنطلق هذه الورقة من تحليل الإرث الثقيل للأجهزة السابقة وما خلّفه من أزمات عميقة، لتسائل حاضر سورية الأمني المضطرب، وتطرح رؤية لملامح جهاز استخباراتي جديد قائم على المعايير الحديثة. الهدف ليس فقط تقديم تصور هيكلي، بل أيضًا إبراز المبادئ والضوابط التي تمنع تكرار أخطاء الماضي وتؤسس أمنًا يحمي المجتمع بدلًا من قمعه.
أولًا: إرث أجهزة الاستخبارات في عهد النظام السابق
ترسّخ في سورية ما عُرف بـ"دولة المخابرات"، على مدار عقود حكم عائلة الأسد، حيث أصبحت أجهزة الاستخبارات أدوات رئيسية للقمع والضبط الاجتماعي. اكتسبت كلمة "مخابرات" سمعة مرعبة لدى المواطن السوري، فمجرد ذكرها كان يبث الخوف في النفوس. كان الدور المفترض لهذه الأجهزة هو حماية الوطن من التهديدات وجمع المعلومات لحفظ الأمن الوطني، إلا أنها انحرفت بشكل جوهري عن هذه الوظيفة، وتحولت إلى أجهزة تعمل أساسًا على حماية النظام من شعبه عبر القمع والتنكيل بالمخالفين.
ورثت هذه الأجهزة هيكلية متشعبة ومعقدة، إذ تضخمت لتصبح شبكة واسعة ترتكز على أربع إدارات رئيسية (إدارة المخابرات العسكرية، إدارة المخابرات الجوية، إدارة المخابرات العامة، إدارة أمن الدولة)، وتتوزع عنها فروع وشُعب في كل محافظة. خلق هذا التوسع شبكة متداخلة الصلاحيات، ما جعلها أشبه بإقطاعيات أمنية متنافسة، وأدى إلى غياب التنسيق وتبادل المعلومات، بل وصل الأمر أحيانًا إلى تقاطع الأدوار و فشل بسبب احتكار كل إدارة للمعلومات1. إلا أن هذا التوسع لم يؤدِّ إلى فعالية، بل خلق تنافسًا داخليًا أشبه بالإقطاعيات المتصارعة، حيث انشغلت الفروع بالتجسس، بعضُها على بعض وبتعزيز نفوذها الخاص، ما أدى إلى غياب التنسيق وتبادل المعلومات، وأحيانًا إلى فشل في ملاحقة المطلوبين بسبب احتكار كل فرع للمعلومات. كما تحولت الأجهزة الاستخباراتية السورية السابقة إلى ما يشبه الشرطة السرية، إذ انحصر عملها في المراقبة الداخلية وضبط المجتمع بدلًا من أداء دورها الطبيعي في جمع المعلومات الإستراتيجية لحماية الدولة. واعتمدت هذه الأجهزة على أساليب قسرية كالتعذيب لانتزاع الاعترافات، ما أدى إلى إنتاج معلومات مشوّهة وغير دقيقة، وأضعف قدرتها على فهم الواقع. وبدلًا من تطوير أدوات التحقيق والتحليل، اتخذت "الاعتراف تحت التعذيب" أساسًا للإدانة، ومسوّغًا لمزيد من القمع2.
انعكس هذا النهج على نظرة المواطنين، إذ ارتبطت المخابرات في وعيهم بالخوف والبطش لا بالحماية والأمن. ترسخ الاعتقاد بأن الجهاز لا يخدم سوى السلطة الحاكمة على حساب أمن الشعب، فأصبح مرادفًا لتكميم الأفواه أكثر من كونه وسيلة لرصد التهديدات الخارجية أو الدفاع عن الوطن. هذا الإرث الثقيل بكل سلبياته يشكّل نقطة الانطلاق لأي جهد يسعى إلى بناء جهاز استخبارات سوري جديد يختلف جذريًا في فلسفته ووظيفته.
ثانيًا: أهمية جهاز الاستخبارات ودوره في الدول وسورية خصوصًا
تلعب أجهزة الاستخبارات والأمن دورًا محوريًا في حماية الأمن القومي وضمان استقرار الدول، فهي تمثل العين الساهرة للدولة التي ترصد التهديدات قبل وقوعها وتسعى إلى إحباطها3. وتكمن أهمية هذه الأجهزة في تعدد وظائفها وتشابكها لتغطي مختلف الجوانب الأمنية والسياسية والمجتمعية. فعلى المستوى الداخلي، يقوم جهاز الاستخبارات بجمع المعلومات وتحليلها وتنفيذ عمليات رصد دقيقة تهدف إلى منع التهديدات الأمنية من التحول إلى أحداث فعلية. وتشمل مهامه حماية الأمن الداخلي من خلال التصدي للأعمال الإرهابية، ومكافحة الجريمة المنظمة التي قد تهدد استقرار المجتمع وسلامة أفراده. كما يسهم في صون الاستقرار السياسي عبر مراقبة الأنشطة التي تستهدف تقويض النظام العام أو التحضير لانقلابات أو إثارة الفتن، بما يحافظ على استمرارية عمل المؤسسات الدستورية وضمان أداء مهامها. ويضطلع الجهاز أيضًا بمسؤوليات على صعيد مكافحة التجسس، إذ يكشف محاولات الاختراق من قبل جهات أجنبية معادية، ويعمل على إحباطها لحماية المعلومات الحساسة وصون الأمن القومي4.
ولا يقتصر دوره على الجوانب الدفاعية، بل يمتد إلى الدور الوقائي في إدارة الأزمات، من خلال توفير معلومات استباقية تساعد مؤسسات الدولة في احتواء الأزمات الطبيعية والأمنية والتعامل معها بكفاءة. أما على المستوى الإقليمي والدولي، فإن أجهزة الاستخبارات تشكل ركيزة أساسية للأمن الجماعي، حيث تساهم في حفظ الاستقرار من خلال التعاون وتبادل المعلومات مع نظرائها في الدول الأخرى. ويُعد هذا التنسيق الاستخباراتي الدولي أداة فعالة في مواجهة الإرهاب العابر للحدود وتفكيك شبكاته، فضلًا عن كونه وسيلة للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل عبر رصد وملاحقة الأنشطة غير المشروعة المرتبطة بها. كما تلعب الاستخبارات دورًا في تعزيز الاستقرار الإقليمي عبر تحليل بؤر النزاع والاضطراب، وتقديم التقديرات التي تدعم الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إيجاد حلول لهذه الصراعات. وبهذا، يغدو جهاز الاستخبارات ليس فقط أداة لحماية الدولة داخليًا، بل أيضًا فاعلًا في النظام الأمني الإقليمي والدولي.
تتضاعف أهمية جهاز الاستخبارات في الحالة السورية، نتيجة الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. فالوضع الداخلي ما زال ملتهبًا بفعل الصراعات المسلحة والانقسامات المجتمعية، وانتشار السلاح، وتعدد الفاعلين المحليين والإقليميين5. وتواجه سورية تهديدات مستمرة من بقايا التنظيمات المتطرفة، ومن الميليشيات المسلحة التي تتحرك وفق أجندات متباينة، بالإضافة إلى التدخلات الاستخباراتية الأجنبية التي تعكس مصالح متضاربة لقوى إقليمية ودولية، وفي ظل هذه البيئة المعقدة، يصبح وجود جهاز استخباراتي فعال ومهني ضرورة مصيرية لمنع عودة الفوضى والعنف، ولضمان بسط سيطرة الدولة على المجال الأمني6. وتكتسب هذه الحاجة أهمية مضاعفة في مرحلة الانتقال السياسي، حيث يشكل الأمن الوظيفة الأهم لأي دولة تخطو خطواتها الأولى نحو إعادة بناء مؤسساتها. بالنسبة لسورية، فإن إعادة تشكيل جهاز استخباراتي حديث ليست مجرد خيار،، بل ضرورة لضمان التوازن الإقليمي الذي يُعتبر هشاً وحساساً في هذه المرحلة، وكذلك لمرافقة عملية إعادة بناء الدولة. إن وجود جهاز مهني يواكب المعايير الحديثة يمكن أن يوفر بيئة مستقرة تسهّل نجاح مسارات الانتقال السياسي والإصلاح الاقتصادي، وتحول دون استغلال الثغرات الأمنية من قبل أطراف تسعى إلى تغذية الفوضى عبر الحدود.
ثالثًا: التمييز بين العمل الاستخباري والعمل الأمني
يتعين أثناء إعادة بناء المنظومة الأمنية السورية إرساء تمييز واضح بين طبيعة العمل الاستخباري (Information/Intelligence Work) والعمل الأمني (Security Work)، إذ يكمل كل منهما الآخر، غير أن مجال الاختصاص وآليات التنفيذ يختلفان بصورة جوهرية.
يقوم العمل الاستخباري (Information/Intelligence Work) على جمع المعلومات وتحليلها سرًا حول الأخطار والتهديدات المحتملة، سواء كانت داخلية أو خارجية، وذلك بهدف تزويد صناع القرار بتقديرات دقيقة تمكنهم من اتخاذ إجراءات استباقية. ويشمل هذا المجال تجنيد المصادر البشرية السرية مثل العملاء والمخبرين للحصول على معلومات حساسة، ورصد الاتصالات والأنشطة المشبوهة، وتحليل البيانات الأولية لإنتاج تقارير استخباراتية تسهم في حماية الأمن القومي. ويُنفذ هذا العمل بسرية تامة، ويتطلب قدرات تحليلية متقدمة وفهمًا معمقًا لأبعاد التهديدات المختلفة، كما يمكن أن يندرج ضمن نطاق خارجي، كما في الاستخبارات الخارجية، أو نطاق داخلي، كما في الاستخبارات الأمنية التي تُعنى بمراقبة الخلايا الإرهابية وشبكات التجسس المحلي7.
فيما العمل الأمني (Security Work) يُعنى بالجانب التنفيذي والميداني لحماية النظام العام والتعامل المباشر مع الحوادث الأمنية. ويتضمن أنشطة أجهزة إنفاذ القانون مثل الشرطة والأمن الداخلي ووحدات مكافحة الإرهاب عند مواجهة الجرائم أو الأعمال التخريبية، كما يشمل تطبيق القانون من خلال الاعتقالات والتحقيقات ضمن الأطر القضائية. ويمثل هذا النوع من العمل الواجهة العلنية للأمن، حيث يعمل على حماية المواطنين والممتلكات عبر الدوريات الأمنية، وإجراءات الحماية الوقائية، والاستجابة الفورية للحوادث. ويتمثل هدفه الأساسي في منع وقوع التهديدات أو التعامل معها بسرعة وفعالية عند حدوثها. وغالبًا ما تتولى قوى الشرطة والأمن العام المسؤولية المباشرة عن هذا العمل، بما يضمن استقرار المجتمع وصون أمنه، ورغم التباين في المهام، فإن العلاقة بين الاستخبارات والأمن علاقة تكاملية. فالمعلومات الاستخباراتية لا تكتسب قيمتها إلا إذا استُثمرت من قبل الأجهزة الأمنية لمنع التهديدات على الأرض، كما أن فعالية الأمن الميداني تعتمد بشكل كبير على دقة المعلومات التي توفرها أجهزة الاستخبارات. ولهذا فإن التنسيق المستمر والتعاون بين الجانبين يشكلان أساسًا للعمل الأمني الحديث. فالاستخبارات تزوّد الأمن بالمعلومات الدقيقة عن التهديدات التي قد تبدأ محليًا وتمتد خارجيًا، بينما يقدم الأمن ملاحظاته الميدانية لتغذية العمل الاستخباري بالمزيد من المعطيات8. على سبيل المثال، قد تكشف الاستخبارات عن خلية إرهابية نائمة أو مخطط اغتيال بدعم خارجي، فتتدخل الأجهزة الأمنية مباشرة لإحباط المخطط. وفي حالة التهديدات العابرة للحدود مثل التنظيمات الإرهابية الدولية أو شبكات المخدرات، يصبح التنسيق بين الاستخبارات الداخلية والخارجية أمرًا حاسمًا لرصد تحركات هذه الشبكات وإحباط أنشطتها9.
أحد أبرز الأخطاء في الحقبة السابقة في سورية كان غياب هذا التمييز، إذ استحوذت أجهزة المخابرات على مهام الأمن الداخلي، وتحوّلت إلى شرطة سرية بقبضة حديدية تعمل خارج القانون، وهو ما أدى إلى انتشار الانتهاكات على نطاق واسع. أما النموذج المنشود اليوم فيقوم على الفصل الواضح بين جمع المعلومات وتحليلها من جهة، وتنفيذ العمليات الميدانية من جهة أخرى. يجب أن يُحصر دور جهاز الاستخبارات في الجانب المعلوماتي والتحليلي والاستباقي، بينما تُمنح سلطات التوقيف والضبط للأجهزة الأمنية النظامية الخاضعة للقضاء والقانون، مثل الشرطة ووحدات مكافحة الإرهاب. هذا الفصل يوفر ضمانة ضد التعسف والانتهاكات، لأنه يمنع تركيز صلاحيات خطيرة بيد جهة واحدة تجمع بين الرصد والتحليل والتنفيذ10.
رابعًا: الهيكلية المقترحة للأجهزة الاستخباراتية الحديثة في السياق السوري
تعتمد فعالية أي جهاز استخباراتي على هيكليته التنظيمية بقدر اعتماده على موارده البشرية والتقنية. وقد أظهرت التجربة السورية السابقة أن الأجهزة الأمنية كانت شديدة التشظي، إذ توزعت بين أجهزة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع، وأجهزة مدنية خاضعة لوزارة الداخلية، وأخرى مرتبطة مباشرة بمكتب الأمن القومي أو القيادة السياسية. هذا التعدد في المرجعيات أدى إلى ازدواجية في الصلاحيات وغياب شبه كامل للمساءلة، ما سمح بانخراط الأجهزة في مجالات متداخلة دون تحديد واضح لوظائفها، وظل هدفها الأساسي تثبيت النظام أكثر من خدمة الأمن الوطني11.
هذا ويعَدّ التنافس الإيجابي بين المؤسسات الأمنية عاملًا محفزًا لتحسين الأداء وتطوير القدرات ما دام يجري ضمن أطر قانونية وتنظيمية واضحة، وهو ما نلحظه حتى في دول راسخة مثل الولايات المتحدة حيث تتقاطع أحيانًا صلاحيات الأجهزة الاستخباراتية والجهات الأمنية، لكن وجود رقابة مؤسسية يضمن تحويل هذا التنافس إلى عنصر تعزيز للكفاءة. أما في التجربة السورية السابقة، فقد تكرّر التنافس بصورة سلبية، إذ تحول ذلك التنافس بسبب تضارب المرجعيات وغياب المساءلة إلى أداة لإضعاف المؤسسات بدلًا من تطويرها لذا فإن إعادة البناء في المرحلة الجديدة تتطلب معالجة هذا الخلل عبر رسم هيكل تنظيمي مؤسسي يضمن وضوح الصلاحيات ويحول دون تكرار حالات التنافس السلبي. وقد أثبتت تجارب عدة لدول خرجت من نزاعات أو أنظمة استبدادية أن النجاح في إعادة بناء الأجهزة الأمنية ارتبط بقدرتها على وضع خطوط فاصلة بين مهام الاستخبارات العسكرية والأمن الداخلي، وبين العمل الشرطي والأمن السياسي، ما عزز من كفاءتها وحدّ من تضاربها. وفي هذا السياق، تتجه الممارسات الحديثة إلى الفصل بين الاختصاصات الأساسية بطريقة تجعل التعاون بين الأجهزة قائمًا على التكامل وتبادل المعلومات، لا على التنافس غير المنضبط:
- وزارة الدفاع تشرف على الاستخبارات العسكرية بوصفها معنية بمتابعة التهديدات العسكرية والأمن الدفاعي.
- وزارة الداخلية تشرف على الاستخبارات الداخلية وقوى الشرطة المدنية التي تضطلع بمهام الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب والتجسس المحلي، على أن تكون هذه القوى منفصلة وظيفيًا عن جهاز الاستخبارات.
- مجلس أو هيئة مستقلة مرتبطة بالقيادة التنفيذية: الإشراف على الاستخبارات الخارجية، بحيث يختص برصد التهديدات والتحولات الإقليمية والدولية، بعيدًا عن وزارة الخارجية التي يجب أن تحافظ على طابعها الدبلوماسي البحت.
تُظهر تجارب مجالس الأمن الوطني أن الاقتصار على إشراك الوزراء، الذين لا يُعتبرون موظفي دولة بالمعنى البيروقراطي الصارم، يحدّ من استمرارية وفعالية عمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. وعليه، يمكن حصر مشاركة الوزراء في الحالات الاستثنائية أو عند الحاجة، بينما يبقى المكوّن الثابت في المجلس متمثلاً في رئيسه، إلى جانب قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. ويشمل ذلك على وجه الخصوص رئيس جهاز الاستخبارات الذي يتمتع بصلاحيات وزير ويتواصل بشكل مباشر مع رئيس الدولة، بخلاف الأجهزة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع، والأجهزة الشرطية الخاضعة لوزارة الداخلية. كما لا يُستساغ ربط جهاز الاستخبارات الخارجي بوزارة الخارجية، لاعتبارات وظيفية وبنيوية مرتبطة بطبيعة عمله.
هذا التقسيم يعكس ما هو معمول به في عدة دول متقدمة مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا، حيث تتوزع الأجهزة الاستخباراتية على اختصاصات متعددة تحت إشراف سياسي وتنظيمي واضح، ما يمنع تركز السلطة في يد كيان واحد ويحقق مهنية أعمق في جمع وتحليل المعلومات. ولتأمين التنسيق المركزي بين هذه الأجهزة، يصبح وجود مجلس أمن قومي ضرورة أساسية، إذ يضم ممثلين عن الدفاع والداخلية والخارجية إلى جانب ممثلين عن الأجهزة الاستخباراتية، ويتولى رسم السياسات الأمنية وتنسيق الإستراتيجيات ومنع تضارب الصلاحيات. هذا المجلس يربط عمل الأجهزة بالاستخدام السياسي والمؤسسي الصحيح، ويجعل الاستخبارات جزءًا من منظومة الحكم الرشيد لا مجرد أدوات تنفيذية معزولة12. إلى جانب البنية المؤسسية، يحتاج الجهاز الجديد إلى بنية تقنية حديثة تضمن كفاءة وشفافية العمل؛ فقد أظهرت التجارب السابقة خطورة الاعتماد على وسائل بدائية في الأرشفة والتوثيق، الأمر الذي قاد إلى أخطاء وانتهاكات جسيمة. لذا، يُعدّ تبني قاعدة بيانات وطنية موحدة ترتبط بها الأجهزة كافة (العسكرية، الداخلية، الخارجية، والشرطة) خطوة أساسية لضمان تبادل المعلومات بشكل منظم، بما يحقق سرعة الاستجابة ويمنع تضارب القرارات.
وبذلك، تتحدد الهيكلية المثلى لجهاز الاستخبارات السوري الجديد كمؤسسة متعددة الأفرع متخصصة، ذات قيادة مركزية للتنسيق، قائمة على إطار قانوني صارم يحدد نطاق عمل كل فرع، ومنفصلة عن أي نفوذ حزبي أو ولاءات ضيقة. هذا النموذج يعيد تعريف وظيفة الاستخبارات بوصفها أداة لحماية الدولة والمجتمع، لا وسيلة للسيطرة على المواطنين أو التدخل في حياتهم اليومية، كما يمنح الجهاز مرونة وفعالية أكبر ويحول دون تكرار أخطاء الماضي التي اتسمت بالترهل والتغول.
خاتمة وتوصيات
تمثل هذه التوصيات إطارًا عمليًا يهدف إلى توجيه عملية بناء جهاز الاستخبارات السوري الجديد على أسس مؤسساتية حديثة، مستفيدة من الدروس المستخلصة من التجربة السورية السابقة ومن أفضل الممارسات المعمول بها في السياقات المقارنة13، وبما يضمن قيام جهاز فعال يحظى بالمصداقية والثقة العامة:
- إطار قانوني وتنظيمي واضح: يتوجب وضع أسس قانونية صارمة تنظم عمل الجهاز الجديد وتحدد صلاحياته وواجباته بدقة. يشمل ذلك سن قوانين تعرف بشكل واضح وظائف أجهزة الاستخبارات والأمن وحدودها، وتلزمها باحترام حقوق الإنسان والمعايير الدولية، وتضمن مستوًى مناسبًا من الشفافية أمام السلطات الرقابية. كما يجب إنشاء آليات للمساءلة والإشراف على عمله، سواء عبر رقابة برلمانية/مجلس الشعب من خلال لجنة متخصصة، أو عبر هيئات مستقلة تراقب الالتزام بالقانون وتحقق في أي تجاوزات. هذه الضوابط القانونية والرقابية ضرورية لضمان عدم تكرار ممارسات الماضي وبناء الثقة بين الجهاز والمجتمع.
- بناء القدرات البشرية والتدريب: يشكل العنصر البشري المؤهل عماد أي جهاز استخبارات ناجح، وهو ما يستوجب الاستثمار في تدريب الكوادر وتأهيلهم مهنيًا وأخلاقيًا. يشمل ذلك تطوير برامج متقدمة في مجالات التحليل الأمني، مكافحة الإرهاب، وأساليب جمع المعلومات، إضافة إلى التدريب على الجوانب القانونية وحقوق الإنسان. كما ينبغي تبني أحدث التقنيات مثل تحليل البيانات الضخمة، نظم المعلومات الجغرافية، وأدوات الاستخبارات السيبرانية. كذلك يُعد استقطاب الكفاءات الشابة والمتعلمة في مجالات التكنولوجيا خطوة محورية لبناء جهاز عصري، خاصة إذا توفرت بيئة عمل شفافة تحفّز على خدمة الوطن بعيدًا عن ممارسات الفساد السابقة.
- التعاون الدولي وتبادل الخبرات: في ظل التهديدات العابرة للحدود، لا يمكن لجهاز استخبارات وطني العمل بمعزل عن العالم. من الضروري بناء شراكات مع أجهزة استخبارات صديقة عبر اتفاقيات لتبادل المعلومات حول التنظيمات الإرهابية وشبكات الجريمة الدولية، إلى جانب برامج تدريب مشتركة مع دول متقدمة في المجال الأمني. ومع ذلك، يجب إدارة هذا التعاون بحذر لضمان الحفاظ على السيادة الوطنية وحماية سرية المعلومات، ضمن أطر قانونية واضحة.
- حوكمة ورقابة داخلية فعالة: يحتاج الجهاز إلى منظومات داخلية قوية للرقابة على الأداء، تكفل كشف التجاوزات والحد من الفساد. يمكن ذلك عبر وحدات تفتيش ومراجعة مستقلة تتابع الالتزام بالإجراءات وتدقق في أي مخالفات. كما ينبغي فرض معايير شفافة للترقية والمكافآت تقوم على الكفاءة والنزاهة لا على الولاءات الشخصية، إلى جانب تدقيق أمني صارم عند التوظيف ودورات دورية في مكافحة الفساد وحماية المعلومات.
- ترسيخ ثقافة احترام حقوق الإنسان: يجب أن تصبح حماية حقوق الإنسان جزءًا أساسيًا من عقيدة الجهاز الجديد. يتحقق ذلك عبر تضمين مواد تدريبية حول حقوق الإنسان والقانون الإنساني في مناهج التأهيل، إلى جانب إنشاء قنوات تعاون مع منظمات حقوقية لمتابعة الأداء وتقييم السياسات الأمنية. إن التزام الجهاز بالقانون ومحاسبة المخطئين داخله كفيل بتحويل صورته من أداة قمع إلى مؤسسة وطنية حامية.
- تطوير وسائل جمع المعلومات: يتطلب نجاح الجهاز إستراتيجية متوازنة تجمع بين المصادر البشرية (Humint) والقدرات التقنية (Sigint). فبينما تظل المعلومات المستقاة من العملاء الميدانيين أساسية لكشف النوايا السرية للخصوم، توفر التقنيات الحديثة إمكانيات متقدمة في المراقبة الإلكترونية واعتراض الاتصالات. ويعزز الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وأدوات التحليل المتطورة القدرة على الاستشراف المبكر للتهديدات بدلًا من الاكتفاء برد الفعل.
- بناء سمعة إيجابية وعلاقة تعاون مع المجتمع: يمثل تجاوز إرث الماضي تحديًا يتطلب سياسة تواصل جديدة تبني الثقة مع المواطنين. يمكن ذلك عبر حملات توعية مدروسة توضح أن وظيفة الجهاز حماية الأمن الوطني لا قمع المجتمع، مع إيراد أمثلة واقعية عن نجاحاته في حماية المواطنين. كما يُستحسن إنشاء وحدة علاقات عامة للتعامل مع الإعلام وإشراك المواطنين في الإبلاغ عن الأنشطة المشبوهة بطرق آمنة، بما يحوّل الأمن إلى مسؤولية مشتركة.
وختامًا، إن بناء جهاز استخبارات سوري جديد يتطلب موازنة دقيقة بين ضرورات الأمن القومي ومتطلبات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. عبر الالتزام بالأسس القانونية الصارمة، وتعزيز التدريب والتعاون الدولي، وترسيخ ثقافة المحاسبة والشفافية، يمكن لسورية أن تؤسس جهازًا فعّالًا يعمل لخدمة الدولة والمجتمع معًا. إذا تحقق ذلك وفق رؤية واضحة، فسيمثل الجهاز ركيزة أساسية لسورية مستقرة وآمنة، ويشكل قطيعةً مع ماضي القمع والهيمنة، ويفتح الطريق نحو مستقبل يوازن بين الأمن والحريات، ليكون نجاح هذه المهمة نقطة تحول مفصلية في مسيرة البلاد نحو الاستقرار والنهضة بعد سنوات طويلة من الصراع.


