الفلسطينيون في سوريا الجديدة
بين الاندماج والمخاوف من التهميش

يتمتع الفلسطينيون في سوريا بخصوصية تميزهم عن نظرائهم في سائر مجتمعاتهم الأخرى في بلدان اللجوء العربي. فمنذ أن ألجأتهم النكبة عام 1948 إلى دمشق وحلب ودرعا وغيرها من المدن السورية لم يعيشوا كلاجئين على هامش المجتمع و الدولة¹، بل كمكوّن اجتماعي حقيقي اندمج في النسيج السوري من خلال إتاحة التعليم والعمل² لهم بشكل طبيعي مثل أي مواطن سوري، فقد تم منحهم حقوقاً مدنية شبه متكافئة مع المواطنين السوريين من خلال القانون 260 لعام 1956³، مما ساهم بصناعة علاقة غير شكلية بين الفلسطينيين والسوريين كانت امتداداً لعلاقة وجدانية وعميقة جعلت صفة "السوري" ملاصقة لهويتهم الفلسطينية، حتى باتوا يُعرفون اصطلاحاً بـ"الفلسطينيين السوريين".
لكن في الآونة الأخيرة، ومع تغيير الحكم في سوريا بعد سقوط نظام الأسد في أواخر 2024، تصاعدت شائعات حول إلغاء الحقوق المدنية للفلسطينيين ومعاملتهم بصفة أجنبي مقيم (حذف كلمة "لاجئ" و"سوري" من الهوية الفلسطينية السورية)، وبالرغم من نفي الحكومة الجديدة هذه الشائعات⁴، إلا أنها أثارت مخاوف الفلسطينيين في سوريا من فقدان خصوصيتهم القانونية وما يمكن أن يتبع هذا الأمر من عواقب خطيرة تتمثل في إسقاط صفة "اللاجئ" و"السوري" عن الفلسطيني، فيكون ذلك سبباً في تضيق حقوق الإقامة والتملك والزواج والعمل والحصول على وثائق سفر، وقد يكون مقدمة للتوطين، أو التهجير، في حال فقدان الحماية التي يتمتع بها الفلسطيني بصفته لاجئاً بموجب القانون الدولي⁵.
تحاول الكاتبة في هذا المقال تفكيك هذه الإشكاليات، عبر تحليل سياسي وقانوني واجتماعي يصف حال الفلسطيني السوري الجديدة، وكيف يمكن لهذه الهوية المركبة أن تتحول من عبء إلى فرصة وطنية لبناء تماسك سوري جامع، ثم تقديم توصيات عملية تحفظ الحقوق وتُبقي باب العودة مفتوحاً.

الفلسطيني السوري وسوريا الجديدة

يتشارك الفلسطينيون مع الشعب السوري في حياة اجتماعية وسياسية تتعدى ما يعبر عنه قانونياً بـ: (السوريون ومَن في حكمهم)، إلى معنى أوسع يستحضر التاريخ المشترك، والألم المشترك، وحتى الأمل المشترك للشعبين الشقيقين. إذ يقدر عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا في عام 2025 حسب سجلات منظمة الأونروا 438 ألف لاجئ فلسطيني⁶، أي ما يقارب نسبة 1.7% من عدد السكان، وهي نسبة بحسب بعض التقديرات أكبر من نسبة الطائفة الإسماعيلية التي تقدر بـ 1%، وأقل من نسبة الدروز المقدرة بـ 3%⁷، وتستند هوية الفلسطينيين السوريين إلى ثنائية الارتباط والانتماء المزدوج والمركب، وذلك من جهة انتمائهم لديارهم الفلسطينية التي طردوا منها، وانتمائهم من جهة أخرى لسوريا التي عاشوا أو ولد معظمهم فيها، فعاصروا تقلبات المجتمع السوري وتحولاته السياسية والاقتصادية وشاركوا فيها⁸، وخاصة أولئك الذين ولدوا من أمهات سوريات، وهم يشكلون نسبة كبيرة من الفلسطينيين السوريين.
بناء على تفاعلات هذه الثنائية وتداخلاتها يمكن القول بأن فلسطينيي سوريا أصبحوا مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع بحكم الأمر الواقع وشكلوا عاملاً مؤثراً ومتأثراً في الأزمات السورية الداخلية والخارجية منها، ولهذا كان حضور الفلسطيني السوري في الثورة السورية طبيعياً، لا كغريب، بل كشريك في الرحلة والمصير مع السوريين.
راكمت تجربة الثورة السورية في تقلباتها وتحولاتها حقائق صادمة لدى فلسطينيي سوريا، لم تقتصر فحسب على حجم الضريبة الباهظة التي دفعوها جراء الانخراط في الثورة، وتمثلت في تدمير واسع لمخيماتهم وتهجير قسري لساكنيها، بل تعداه إلى تجرع كافة صنوف القتل والاعتقال والحصار والتجويع، التي يتحمل النظام الأسدي المسؤولية المباشرة فيها.
ثم هناك دروس أخرى أيضاً تستدعي النظر، حيث شهدت الحالة الفلسطينية انقساماً بين مؤيد وداعم للثورة وبين معارضٍ ومعادٍ لها من بعض الفصائل الفلسطينية، الحالة التي شابهت انقسام الشعب السوري نفسه، إذ ذهبت بعض الفصائل الفلسطينية إلى المشاركة الفعلية في دعم النظام الذي انتقل من المتاجرة بالقضية الفلسطينية، إلى استغلال هذا الدعم في تغطية سياساته بحق جزء عضوي من أهل القضية، وذلك بأيادٍ مأجورة من أبناء جلدتهم! وبوسائل تحاكي حربه على المجتمع السوري⁹.
لذلك فإن مطالب الفلسطينيين السوريين من الإدارة الجديدة بعد سقوط نظام الأسد هي ذاتها مطالب الشعب السوري المتمثلة بإقامة دولة القانون والمواطنة والحريات، وتطبيق مسارات العدالة الانتقالية لكل مكوناته، ومعالجة إرث الفساد والترهيب والتجهيل الذي خلفه النظام على مدار عقود.

تخوفات فلسطيني سوريا من المستقبل

إن ما ينتجه هذا السياق من الحال المشتركة بين السوريين والفلسطينيين السوريين يظهر تعذر قراءة مستقبلهم خارج سياق مستقبل سوريا نفسها. إذ التحديات كبيرة أمامهم، تبدأ من إعادة إعمار المخيمات، والعمل على ملف المعتقلين، وعودة النازحين، بالإضافة إلى توصيفهم القانوني والسياسي في الدولة الجديدة، وكيفية تعاملها مع ملف قضيتهم المعقد.
يخشى الفلسطينيون السوريون أن يتم التنازل عن مبدأ المقاومة كمعنى حاضر في الحالة الفلسطينية تحت عبارات "عودة السيادة" أو "نهاية الحرب" أو تحوله إلى عبء من خلال محاولات بعض القوى سواء كانت محلية أو مدعومة خارجياً لتأليب بعض مكونات المجتمع ضد بعضها الآخر، كما في حالة بعض الدروز الذين تُحاول إسرائيل كسبهم إلى جانبها، وهذا ما يهدد بطريقة ما إعادة تأطير الفلسطيني كعنصر "خطر" أو "تابع للعدو"¹⁰.
بطبيعة الحال، قد يكون التخوف الأكبر لدى فلسطيني سوريا يتمثل في تفكيك وجودهم قانونياً واجتماعياً، لا بفعل قرار واحد، بل بسلسلة تغييرات صامتة، تنقلهم من موقع الشريك إلى موضع الزائر المؤقت إلى أن يُطلب من الفلسطيني أن يختار مجبراً بين أن يصبح سورياً بالكامل وينسى فلسطين، أو أن يبقى فلسطينياً بلا أي غطاء قانوني¹¹. وبالتالي قد يتحول الفلسطيني السوري إلى غريب في المخيم الذي وُلد فيه، والذي بقدر ما كان رمزاً للنكبة كان مختبراً للاندماج عمل على خلق جيل فلسطيني بمقدار ما هو سوري، يتحدث بلهجة مزدوجة، لكنها موحدة في رؤيتها للمستقبل، وهذا الجيل بالتحديد هو المقلق بشكل أكبر.

دور الفلسطيني السوري في التماسك المجتمعي في سوريا

يستطيع الفلسطيني في سوريا أن يلعب دوراً تركيبياً توحيدياً، أبعد من دور مصالحة بين أطراف متنازعة. فهويته المركبة (اللاجئ المقاوم، المواطن غير المجنس، الشريك في الثورة، المتضرر من القمع والشتات) تُمثل الذاكرة الجماعية السورية بجوانبها المتمثلة في مقاومة الاحتلال الخارجي (إسرائيل)، والاحتجاج ضد الاستبداد الداخلي، والهشاشة القانونية والانتماء المؤجل.
إن آليات هذا الدور تتجلى في نقاط عملية:

1. الحضور النشط للفلسطينيين في المجتمع المدني السوري: من خلال المبادرات المشتركة في التعليم، والصحة، والإغاثة، والثقافة¹².
2. تكوين منصات حوارية: تجمع الشباب السوري والفلسطيني على طاولة واحدة لمناقشة المستقبل، بعيداً عن منطق الوصاية والتمييز.
3. دعم المشاريع الاقتصادية المشتركة: داخل المخيمات والمدن، مما يعزز الاعتماد المتبادل ويوسع أفق الاندماج.

وهنا ينبغي أن يتكامل هذا الدور مع دور الحكومة المحوري، ليضمن تعزيز هذه الآليات وضمان حماية المكون الفلسطيني السوري قانونياً واجتماعياً، وذلك عبر تشريعات تدعم الاندماج وتحفظ حق العودة، ضمن استراتيجية قانونية واضحة تتضمن:

• الحفاظ على خصوصية الهوية الفلسطينية وتثبيت سرديتها من خلال سن تشريعات تؤسس لاعتراف قانوني مرن بهوية الفلسطيني السوري، دون المساس بحق العودة.
• منع أي إجراءات أو قرارات تُعيد تصنيف الفلسطينيين كأجانب، لأن ذلك سيفتح الباب لتفكيك وجودهم القانوني والاجتماعي؛
• إنشاء أطر تمثيلية سياسية أو نقابية أو ثقافية تحفظ هذا الدور، وتمنحه مساحة في بناء سوريا المستقبل؛ من خلال إطلاق مبادرات تشريعية تتيح للفلسطينيين تشكيل كيانات سياسية أو أحزاب ذات طابع سوري-فلسطيني، تُشارك في الحياة السياسية بما يتناسب مع وزنهم السكاني والاجتماعي¹³.
• تشجيع مؤسسات المجتمع المدني السورية والفلسطينية على إنتاج خطاب جامع يعزز السردية المشتركة، ويُواجه الخطابات الطائفية أو الإقصائية.
• إعادة إعمار المخيمات باعتبارها جزءاً من النسيج الحضري السوري، لا كمناطق معزولة، مع الحفاظ على طابعها الرمزي.
• الحفاظ على تسمية "مخيم" التي ترمز للإقامة المؤقتة لحين التمكن من العودة إلى الوطن الأم.
• الاعتراف الرسمي بدور الفلسطينيين في التماسك الأهلي السوري، من خلال مناهج التعليم، والخطاب الإعلامي، والسياسات العامة.

خاتمة

الهوية المركبة للفلسطيني السوري ليست مأزقاً، بل قد تكون مفتاحاً لإعادة صياغة المفهوم السوري للانتماء، على أساس تشاركي لا طائفي، وحقوقي لا أمني. فالذين قاتلوا من أجل فلسطين وثاروا من أجل سوريا، ليسوا خارج المعادلة، بل في صلبها. التحدي اليوم هو في الاعتراف بهذا الدور ومساهمته، ثم تحويله إلى مشروع سياسي وتشريعي جامع، لا يفرّط بحق العودة، ولا يحرم الفلسطينيين من حقوقهم المدنية.
إذا ما أُتيحت الفرصة للأجيال الجديدة، فقد تكون هي الجسر بين فلسطين وسوريا، بين الذاكرة والمستقبل، وبين الحلم العربي والواقع السوري الجديد.