أمن تمثيلي لا احتكاري
ضرورة إشراك المجتمع في بناء المؤسسات الأمنية

تُعد البُنى الأمنية والاستخباراتية في الدول التي تمر بتحولات سياسية من أكثر المؤسسات عرضةً لإعادة التشكيل وفقاً لاعتبارات ما قبل الدولة أو ما دون الوطنية. وغالباً ما يتجلى ذلك في حصر التوظيف داخل هذه المؤسسات ضمن مكونات اجتماعية أو طائفية بعينها، ما يؤدي إلى إقصاء شرائح واسعة من المجتمع عن الوصول إلى مواقع النفوذ الأمني أو المشاركة في إنتاج القرار السيادي.
في السياق السوري، شكّلت الأجهزة الأمنية، منذ عهد حافظ الأسد ولاحقاً بشار الأسد، ركيزة أساسية لترسيخ السلطة عبر نمط احتكاري في بناء القوة، استند إلى معايير الولاء الشخصي والانتماء الضيق، وليس إلى معايير المهنية أو التمثيل الوطني. وقد أفضى هذا النموذج إلى بناء جهاز أمني مغلق اجتماعياً، يقوم على إنتاج وتدوير ذات النخبة الأمنية ¹ ، ويعمل بوصفه أداة للضبط العمودي وليس الحماية الأفقية للمجتمع. ²
بعد سقوط النظم السلطوية، غالباً ما تتكشّف حقيقة هذه البُنى كأدوات قسرية فاقدة الشرعية المجتمعية، ويُعاد إنتاجها في مرحلة ما بعد الاستبداد بطرق مختلفة، إمّا عبر تسويات فوقية لا تُغير جوهر الهيكل الأمني، أو من خلال هيمنة فئة جديدة تُقصي فئات أخرى، ما يُفضي في الحالتين إلى تعثّر الإصلاح الحقيقي. وبالتالي إن تجاهل البُعد التعددي في تشكيل المؤسسات الأمنية لا يمثل خللاً أخلاقياً فحسب، بل يشكّل خطراً وظيفياً ينعكس على فاعلية تلك المؤسسات في الاستقرار وإدارة التهديدات.

رغم سقوط النظام السلطوي، غالباً ما تستمر البُنى الإقصائية التي أرسيت في عهد النظام السابق ضمن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ليس فقط من خلال الأطر التنظيمية، بل في البنية الذهنية والثقافية للمجتمع والدولة، إذ يترسّخ في الوعي العام تصورات نمطية ترى في الأجهزة الأمنية امتداداً للسلطة السياسية لا كأدوات لخدمة الأمن المجتمعي، كما تنتشر مقولات مثل: "الأمن يجب أن يكون بلون الحكومة"، أو "القادة الأمنيون من أبناء الطائفة الحاكمة أو حتى من أقرباء المسؤولين"، لتُعيد إنتاج منطق الحصرية بوسائل ثقافية وذهنية³
. تُترجم هذه التصورات عملياً إلى عزوفٍ واسع لدى فئات اجتماعية كثيرة عن الانخراط في المؤسسات الأمنية، حتى في حال توفرت فرص شكلية للالتحاق بها. كما تعزز الحكومات الانتقالية – عن قصد أو نتيجة ضغوط توازنات ما بعد الصراع – هذا النمط الحصري عبر إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية بطريقة تُبقي على طابعها الأحادي أو تمنح امتيازات لفئة محددة كتعويض عن خسائرها خلال النزاع.
وبالتالي، ينبغي على الأنظمة الجديدة إعادة هيكلة الأمن ليس فقط بالإجراءات التقليدية المتبعة عادة في دول العالم الثالث والتي غالباً ما تقتصر على تغيير قادة وأفراد الأجهزة الأمنية، بل يجب أن يتعداه لإعادة تعريف علاقتها بالمجتمع، وإشراك جميع طبقاته المختلفة في الأمن بشكل يُسهم في فعالية الأجهزة الأمنية، ويرسخ الاستقرار السياسي، كما يؤسس لعلاقة ثقة مستدامة بين الدولة والمواطن ⁴

تُظهر التجارب المقارنة في دول ما بعد النزاع أو الانتقال من السلطوية أن التعددية داخل المؤسسات الأمنية – سواء على مستوى الانتماء المناطقي أو الطائفي أو الطبقي – تُعد أحد المحددات الأساسية لفعالية هذه المؤسسات، وقدرتها على أداء وظائفها دون تحوّلها إلى أدوات قمع أو أدوات صراع داخلي.
إن انخراط شرائح مجتمعية متنوعة في الأجهزة الأمنية يعزّز من شرعيتها المجتمعية، ويرفع من كفاءة قدرتها على جمع وتحليل المعلومات، انطلاقاً من أن التنوع يتيح فهماً أوسع لطبيعة السياقات المحلية والتهديدات الحقيقية. كما يقلل من احتمالية الانزلاق نحو استخدام العنف كوسيلة وحيدة للسيطرة، نظراً لأن جزءاً من الكادر الأمني سيكون مرتبطاً عضوياً بمجتمعاته، ما يدفعه للتمييز بين "الخصم" و"المواطن".
إضافة إلى ذلك، يحدّ هذا الانفتاح من احتمالات التمرد داخل المؤسسة الأمنية أو الانقلابات، إذ إن اتساع قاعدة الانتماء يخلق نوعاً من التوازن الداخلي ويمنع احتكار القرار الأمني من قبل مجموعة ضيقة قد ترى في التحرك الانقلابي وسيلة لحماية مصالحها.
بالتالي، فإن إشراك مختلف طبقات المجتمع لا ينبغي النظر إليه باعتباره تدبيراً إصلاحياً أخلاقياً فقط، بل هو ضرورة بنيوية لضمان الاستقرار، وتماسك الدولة، وتحقيق تحول أمني مستدام⁵
.

لا يقتصر غياب التعددية في الأجهزة الأمنية على إرث النظام السلطوي فحسب، بل يرجع أيضاً إلى جملة من العوامل البنيوية والثقافية والسياسية التي تقيّد مسارات الإصلاح الأمني وتعيد إنتاج الإقصاء حتى في مراحل ما بعد التغيير.

يتمثل أول هذه الموانع في ضعف الإرادة السياسية لدى النخب الحاكمة الجديدة، والتي تميل غالباً إلى استنساخ النموذج السلطوي ضمن المؤسسات الأمنية، إما بدافع الخوف من الانفلات الأمني، أو كوسيلة لضمان السيطرة السياسية على أدوات العنف الشرعي. وفي كثير من الأحيان، يُعاد تشكيل المؤسسات الأمنية بعقلية تقاسم الغنائم بين الفاعلين الجدد، ما يُفرغ فكرة "الشمول المجتمعي" من مضمونها لصالح المحاصصة السياسية أو الطائفية ⁶
ثانياً، تعاني المجتمعات الخارجة من النزاع من انقسامات أفقية عميقة (قومية؛ طائفية؛ عشائرية؛ مناطقية)، ما يُعقّد عملية إعادة البناء المؤسساتي على أسس وطنية جامعة. إذ قد يُنظر إلى أي انخراط لفئة كانت خصماً سياسياً أو مجتمعياً على أنه تهديد، لا كخطوة نحو الاندماج، وهو ما يُنتج مقاومة داخلية لفكرة الإصلاح ذاته⁷
ثالثاً، تتجلى مشكلة إضافية في انعدام الثقة بين المجتمع والمؤسسات الأمنية، نتيجة عقود من القمع، ما يؤدي إلى عزوف مجتمعي تلقائي عن الانضمام إلى تلك المؤسسات، حتى في حال فتح باب التوظيف أو الإصلاح. وهذه الفجوة لا يمكن ردمها فقط من خلال إجراءات إدارية أو قانونية، بل تتطلب بناء سردية جديدة تعيد تعريف وظيفة الأمن وموقعه ضمن العقد الاجتماعي للدولة⁸ .

إن بناء أجهزة أمنية تمثّل جميع فئات المجتمع لا يتحقق عبر التوظيف العشوائي أو توزيع رمزي للوظائف، بل يستلزم تبنّي سياسات إدماج منهجية تتكامل مع عملية إعادة هيكلة أوسع للقطاع الأمني. في هذا الإطار، يمكن الاستفادة من النماذج المقارنة التي طُبقت في دول ما بعد النزاع، مثل جنوب إفريقيا وسيراليون وأوغندا، والتي تبنّت استراتيجيات واضحة لإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية على أسس مهنية وشاملة. على سبيل المثال تمكنت أوغندا من تطوير جهاز استخبارات مدني يضم مشاركين من إثنيات متعددة، ما مكّنها من اختراق المجتمعات المحلية الصعبة واستباق أي تمرد.
بشكل عام، يتطلب الإدماج المجتمعي وضع معايير صارمة وشفافة في الانتساب إلى المؤسسات الأمنية، مع ضمان التوازن الجغرافي والطائفي والطبقي من خلال نظم توظيف عادلة⁹ . كما ينبغي إنشاء لجان مستقلة لرقابة التوظيف داخل القطاع الأمني، تُشرف على ضمان عدم استغلال عملية الإدماج لتحقيق توازنات سياسية ضيقة.
وعلى مستوى التدريب والتأهيل، فإن نقل الأجهزة الأمنية من مجرد أدوات قسرية إلى مؤسسات وطنية يتطلب إعادة تأطير العقيدة الأمنية لتقوم على حماية المواطن لا حماية النظام. وهو ما يستدعي بناء مناهج تعليمية جديدة للعاملين في هذه الأجهزة، تتضمن مبادئ حقوق الإنسان، ومفاهيم الأمن الإنساني، وأساليب العمل الاستخباراتي المدني، بدلاً من الطابع العسكري الصرف.
كما يجب ألا يُنظر إلى الإدماج كعملية آنية تنتهي بقرارات تعيين أو تخصيص حصص، بل كمسار مستمر يعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويضمن أن تكون المؤسسات الأمنية انعكاساً للهوية الوطنية الجامعة، لا استمراراً لانقسامات الماضي.

يُظهر تحليل العلاقة بين التكوين المجتمعي للأجهزة الأمنية وطبيعة أدائها الوظيفي أن الإقصاء المجتمعي ليس مجرّد خلل في العدالة التمثيلية، بل هو عامل جوهري يضعف فعالية تلك المؤسسات، ويزيد من احتمالات استخدامها كأداة قسرية موجهة ضد فئات بعينها. كما أن غياب التعددية داخل الأجهزة الأمنية في الدول الخارجة من النزاع يؤدي إلى إعادة إنتاج السلطوية بأدوات مختلفة، ويُقوّض فرص بناء دولة جامعة تقوم على عقد اجتماعي جديد.
بناءً عليه، يمكن تقديم التوصيات الآتية للحكومات الانتقالية والمجالس الأمنية ومراكز التدريب والإصلاح المؤسسي:
• تأسيس معايير تمثيلية واضحة في التوظيف الأمني، تضمن توازناً مناطقياً وطائفياً وجندرياً، دون أن تُخلّ بمبدأ الكفاءة.
• إعادة تأطير العقيدة الأمنية من خلال إدماج مبادئ الحياد السياسي، واحترام الحريات، والتزام حقوق الإنسان في مناهج التدريب والتأهيل الأمني.
• تطوير أدوات ردع ذكية وانتقائية، تشير الخبرات الدولية إلى أن الأجهزة الأمنية التي تتسم بالتعدد الاجتماعي أقل ميلاً لاستخدام العنف العشوائي، وأكثر قدرة على الاستجابة الذكية والانتقائية للتحديات الأمنية واستخدام العنف¹⁰
• إنشاء لجان مستقلة مدنية-عسكرية تُشرف على عمليات التوظيف والترقيات داخل الأجهزة الأمنية، وتتمتع بصلاحيات مراجعة الهيكلية الداخلية لهذه المؤسسات.
• ربط الإصلاح الأمني ببرامج العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية، لضمان قبول مجتمعي أوسع بعملية إعادة بناء الأجهزة الأمنية.
• الاستفادة من التجارب المقارنة عبر إقامة شراكات مع منظمات دولية متخصصة في إصلاح قطاع الأمن "SSR" وبرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج "DRR".
تُعد هذه التوصيات مدخلاً عملياً لتفكيك البنية الإقصائية المتجذّرة في المؤسسات الأمنية، ولإعادة تشكيلها كأداة للاندماج والاستقرار، لا كرافعة للانقسام والسيطرة.