تمهيد
شهدت سورية منذ سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 تصعيداً عسكرياً واسعاً من قبل إسرائيل التي أطلقت عملية عسكرية باسم "سهم باشان" استهدف الطيران فيها لمدة عشرة أيام معظم المنشآت العسكرية السورية، كما توغلت قواتها البرية داخل المنطقة المنزوعة السلاح في القنيطرة وجبل الشيخ لإقامة مناطق أمنية جديدة تمتد إلى ما وراء الخط الفاصل المتفق عليه في اتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل عام 19741 مما يشير لانتقالها بهذا التصعيد من سياسة "الردع" إلى سياسة "رسم هندسة الميدان السوري" تمهيدًا لاتفاقات أمنية جديدة ظهرت ملامحها في مباحثات عام 2025 بين الجانبين، حيث بدأت اللقاءات الأمنية بين سورية وإسرائيل بشكل غير معلن في أواخر تموز من عام 2025، بانعقاد أول اجتماع سري بين وفدين أمنيين من البلدين في العاصمة الأذربيجانية باكو بوساطة روسية ودعم أمريكي، لمناقشة الترتيبات الأمنية في الجنوب السوري بعد تصاعد التوترات2.تلاه لقاء رسمي علني في منتصف آب من العام ذاته في باريس برعاية أمريكية مباشرة، جمع بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون دريمر، بحضور المبعوث الأمريكي توم باراك3، وفي منتصف أيلول 2025، وفي إطار محادثات تعد الأهم منذ بدء مسار باكو حسب وصف مصادر دبلوماسية، عُقِد لقاء مطوّل وغير معلن في العاصمة البريطانية لندن استمر لخمس ساعات، بمشاركة الأطراف الثلاثة ذاتها، خُصِّص لمناقشة المقترح الأمني الإسرائيلي والرد السوري عليه، و تناول اللقاء الحديث حول قضايا إعادة ترسيم المنطقة العازلة، والضمانات الأمنية المتبادلة، ومنع تمركز قوات غير نظامية قرب الجولان4، كما تتابعت عدة لقاءات ومباحثات لاحقة في نيويورك أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2025، بوساطة الولايات المتحدة وبدعم من فرنسا، لبلورة اتفاق أمني شامل حول الجولان وخفض التصعيد في الجنوب5.
شهدت سورية منذ سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 تصعيداً عسكرياً واسعاً من قبل إسرائيل.
دوافع الأطراف نحو الاتفاق:
الدوافع السورية:
- استعادة السيطرة على الجنوب السوري وفرض سيادة نسبية على المناطق الحدودية بعد استغلال الفراغ الأمني عقب سقوط النظام البائد6.
- خفض وتيرة الغارات والعمليات العسكرية الإسرائيلية التي أدت إلى تدمير واسع للبنى التحتية وقوات الجيش السوري7.
- تأمين استقرار جغرافي وأمني يسمح بوضع حد للتوترات المستمرة في مناطق مثل درعا والقنيطرة والسويداء، وللتأكيد على وحدة الأراضي8.
- ترسيخ العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة ودول أخرى لتخفيف العزلة السياسية والضغوط الاقتصادية المفروضة على دمشق9.
- تهدئة الوضع الداخلي الأمني والسياسي مما يمهد لإعادة بناء مؤسسات الدولة ومحاولة استعادة الاستقرار، والانتقال من الصراع المفتوح إلى تسوية جزئية.
- محاولة تقليل التأثير السلبي لقوى إقليمية مثل إيران وحزب الله في الجنوب السوري عبر ضبط العلاقات الأمنية مع إسرائيل.
- التشغيل التدريجي للمنطقة الإستراتيجية الجنوبية بما يضمن عدم تحولها إلى مسرح للصراعات المحلية أو الإقليمية.
- منع التوسع الإسرائيلي غير المنضبط وتحديد طبيعة وجود القوات الإسرائيلية وفق ضوابط ومراقبة دولية.
- الإبقاء على موقف حازم تجاه قضية الجولان وعدم الاعتراف بسيادة إسرائيل عليه، مع شرط انسحاب إسرائيلي تدريجي10.
بالنتيجة تسعى الحكومة الانتقالية من خلال هذا الاتفاق إلى تحقيق توازن دقيق بين الاستقرار الأمني والسياسي الداخلي، والحفاظ على حقوق السيادة، مع الاستفادة الدبلوماسية والاقتصادية الممكنة، في إطار إقليم معقد وتوازنات دولية متغيرة.
تسعى الحكومة الانتقالية من خلال هذا الاتفاق إلى تحقيق توازن دقيق بين الاستقرار الأمني والسياسي الداخلي، والحفاظ على حقوق السيادة.
الدوافع الإسرائيلية:
- السعي لفرض واقع أمني في الجنوب السوري لتصبح مساحات واسعة شبه معزولة عن سلطة دمشق، مع توسيع النفوذ الإسرائيلي في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء وأجزاء من ريف دمشق الجنوبي الغربي.
- توسيع وتثبيت المناطق العازلة عبر تقسيم الجنوب إلى ثلاث مناطق أمنية مع إبقاء خطوط فصل واضحة تمنع بشكل كامل وجوداً عسكرياً سورياً11.
- حماية مصالحها في استخدام الأجواء السورية بما يحفظ حرية الطيران العسكري الإسرائيلي ضد أي تهديدات إقليمية، خصوصًا من إيران12.
- التحكم في التجمعات الدرزية داخل سورية تحت ذريعة الحماية الأمنية، ما يمنح تل أبيب نفوذاً داخلياً إضافياً في هذه المناطق13.
- خفض التوتر الحدودي وتأمين الحدود الإسرائيلية من أي هجمات محتملة من الفصائل المسلحة السورية أو غيرها عبر تفكيك الوجود العسكري السوري المكثف14.
- إضعاف التحالفات السورية الإقليمية، وتقليل نفوذ إيران وحزب الله.
- توفير غطاء دبلوماسي وشرعية دولية لعملياتها العسكرية في جنوب سورية، من خلال الاتفاقات الأمنية والرقابة الدولية15.
- منع تفاقم النفوذ التركي في مناطق الجنوب السوري والسيطرة على أي محاولات من أنقرة لتوسيع وجودها العسكري16.
- التمهيد لحالة استقرار أمني مؤقتة تسمح بتركيز الموارد الإسرائيلية على تهديدات أخرى، خصوصاً الملف الإيراني وغزة.
- إظهار الإنجاز أمام المجتمع الدولي والدول الغربية من خلال هذا الاتفاق، خصوصاً الولايات المتحدة، في إطار إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفق رؤية ترامب17.
توضح لنا هذه النقاط كيف أن الدوافع الإسرائيلية تركز على تثبيت المكاسب الأمنية والعسكرية والإقليمية، بينما تسعى دمشق إلى استعادة السيطرة والشرعية مع تقليل الضغوط والضرر، وهو ما يبرز التناقض بين الطرفين في طبيعة وطموحات الاتفاق الأمني.
توضح لنا هذه النقاط كيف أن الدوافع الإسرائيلية تركز على تثبيت المكاسب الأمنية، بينما تسعى دمشق إلى استعادة السيطرة والشرعية.
دوافع الولايات المتحدة الأمريكية:
- تحقيق الاستقرار في الجنوب السوري بما يحد من التوترات العسكرية والتهديدات الحدودية الإسرائيلية18.
- منع تصاعد الصراع الذي قد يدفع سورية للتقرب من روسيا وإيران، والحفاظ على نفوذ أميركي في الملف السوري.
- تعزيز دور واشنطن كوسيط إقليمي ومرجع للسلام والتسويات مع الحفاظ على مصالح إسرائيل الإستراتيجية19.
- الضغط على دمشق للقبول باتفاقيات أمنية تخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية دون إحداث تغيير جذري في النظام، مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية20.
هذه الدوافع تعكس رغبة إدارة ترامب في تكريس صورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب كـ "صانع سلام"، وفي الوقت نفسه إبعاد سورية عن محور إيران وحزب الله.
دوافع تركيا:
- تخشى أنقرة من نجاح انفصال السويداء، الأمر الذي سيمنح دفعة معنوية لحركات الانفصال الأخرى، خصوصاً قوات قسد (المكون الكردي) في الشمال الشرقي، و( العلويين ) في الساحل السوري القريب من حدودها الجنوبية الغربية (الملاصقتين لمناطق العلويين في أنطاكيا)، فنجاح كيان درزي مستقل سيُستخدم ذريعةً تطالب من خلالها هذه المكونات الفاعلة بحكم ذاتي موسّع أو باستقلال فعلي21.
- تأمين نفوذها الإقليمي ومنع تهميشها في المفاوضات الدولية، حيث تتحرك بدافع القلق من أن يؤدي الاتفاق الأمني، برعاية أمريكية، إلى بناء ترتيبات جديدة تستثنيها من المعادلة السورية – الإسرائيلية، مما قد يُضعف قدرتها على المناورة إقليمياً22.
- تنظر تركيا بريبة إلى تبادل المعلومات أو التعاون التقني المحتمل بين تل أبيب وقوات سورية الديمقراطية، وهو ما تعتبره تهديدًا لأمنها القومي23.
- تسعى أنقرة لأن تكون جزءًا من أي ترتيبات بديلة عن النفوذ الإيراني في سوريا، حتى لا يُملأ الفراغ بالكامل من قبل المحور الإسرائيلي – الأمريكي، وهو ما أشار إليه محللون في “الجزيرة” و“الشرق الأوسط"24.
- رؤية تركيا سورية كحاجز أمني أول في مواجهة التهديدات الإقليمية، ومنطقة نفوذ سياسي وأمني في ظل الحكومة السورية الحالية.
- رؤية تركيا سورية كممر تجاري مهم وسوق شرهة للبضاعة التركية في ظل ضعف الصناعة السورية في مرحلة الثورة.
- سعي أنقرة إلى تعزيز مشروعها "خط الحجاز" بالتنسيق مع السعودية والعراق، في مواجهة مشروع "ممر داوود" الذي تعمل عليه إسرائيل لربط موانئها بالخليج عبر الجولان ودرعا، وهو ما يُعد تهديداً مباشراً للنفوذ التركي في مسارات التجارة الإقليمية25.
- محاولة أنقرة التأثير دبلوماسياً في مسار الاتفاق لعرقلة التحركات الإسرائيلية المدعومة من تحالف شرق المتوسط، حيث تتحول صفقة تسليح قبرص ظاهرياً إلى أداة لتعزيز شبكة تدريب واستخبارات تجعل منها امتداداً للقدرات الإسرائيلية في مناطق بحرية وجزر حساسة26.
تسعى أنقرة لأن تكون جزءًا من أي ترتيبات بديلة عن النفوذ الإيراني في سوريا، حتى لا يُملأ الفراغ بالكامل من قبل المحور الإسرائيلي – الأمريكي.
سيناريوهات التنفيذ:
يُظهر مسار التفاهمات الأمنية بين سورية وإسرائيل تعدداً في الاتجاهات المحتملة، فإما نجاح الاتفاق وتثبيته، أو فشله الكامل، أو توقيع الاتفاق ومن ثم تعطيله لإفشاله. ويمكن استعراض أبرز هذه السيناريوهات وفق ما يلي:
- سيناريو النجاح والتنفيذ الكامل للاتفاق:
- توقيع الاتفاق رسمياً وتنفيذه تدريجياً مع انسحاب تدريجي للأسلحة الثقيلة من الجنوب السوري.
- تقسيم الجنوب إلى ثلاث مناطق أمنية مع منطقة عازلة منزوعة السلاح تحت رقابة دولية.
- فرض حظر للطيران العسكري في الجزء الجنوبي الغربي من دمشق.
- نشر مراقبين دوليين لضمان التنفيذ.
- الاتفاق على تطوير اتفاقيات أمنية أخرى لاحقاً في مختلف الجوانب العسكرية والسياسية دون الوصول إلى تطبيع أو سلام شامل في الوقت الراهن.
يساهم هذا السيناريو في خفض التوتر وتعزيز الاستقرار في المنطقة والتأسيس لاستمرار المفاوضات بشروط متوازنة. - سيناريو الفشل:
- عدم التوصل إلى اتفاق بسبب الخلافات الأساسية حول قضايا مثل جبل الشيخ والجولان.
- استمرار الغارات والتوترات العسكرية بين الطرفين مع احتمال تصعيد الصراع على الحدود.
- فشل في فرض رقابة دولية صارمة مما يؤدي إلى تعميق حالة الفوضى وعدم الاستقرار.
- تراجع فرص عودة الاستقرار للجنوب السوري وتفاقم الانقسام الداخلي، وازدياد الضغط على الحكومة السورية في الملفات السياسية والاقتصادية.
- سيناريو التوقيع ثم الفشل:
- التوقيع على الاتفاق ضمن ضغوط دولية، يتبعه نشوء صعوبات داخلية في سورية تمنع التنفيذ الكامل (رفض شعبي أو مقاومة فصائل مسلحة).
- التزام إسرائيل جزئياً بشروط الاتفاق، محاولة استغلال الثغرات في الاتفاق لتنفذ سياستها العسكرية، أو استغلال عدم وضوح تنفيذ بعض النقاط فيه.
- تأجيل أو تعليق الاتفاق فتراتٍ طويلة مع استمرار التوترات وصراعات النفوذ في مرحلة ما بعد التوقيع.
- تحول الاتفاق إلى أداة سياسية أكثر من كونه اتفاقاً أمنياً، كما حدث في حالات مماثلة في التاريخ السوري.
تاريخياً، شهدت العلاقات السورية-الإسرائيلية جملة من الاتفاقات الأمنية الجزئية التي ركزت على ضبط الحدود الجنوبية وتجنب التصعيد، أبرزها اتفاقيات الهدنة لعام 194927 التي رسمت خطوط وقف إطلاق النار، واتفاقية فك الاشتباك لعام 197428 التي أرست وجود قوات الأمم المتحدة (UNDOF) لمراقبة المنطقة العازلة. في حين حافظ الطرفان رغم التوتر المزمن على التزام نسبي ببنود الاتفاق، إذ ظلت الجبهة السورية من أهدأ الجبهات العربية مع إسرائيل لعقود، باستثناء خروقات محدودة مرتبطة بالوضع الإقليمي أو بتحركات فصائل حليفة لدمشق.
استناداً إلى اللمحة التاريخية للعلاقات السورية الإسرائيلية وإلى معظم المؤشرات الميدانية والسياسية الراهنة، يبدو السيناريو الثالث (توقيع الاتفاق ثم تعطيله) الأكثر ترجيحاً في المدى المنظور، لاعتبارات تتعلق بضعف الثقة المتبادلة بين الأطراف، وتضارب أجندات القوى الإقليمية والدولية في الملف السوري.
يبدو السيناريو الثالث (توقيع الاتفاق ثم تعطيله) الأكثر ترجيحاً في المدى المنظور، لاعتبارات تتعلق بضعف الثقة المتبادلة بين الأطراف.
ففي حين تسعى إسرائيل إلى ترسيخ واقع أمني طويل الأمد يمنع أي وجود عسكري او تهديد من سورية بعد تولي الحكومة الجديدة وتثبيت مكاسبها الجديدة، يهدف الطرف السوري إلى كسب اعتراف حقيقي بشرعيته السياسية الجديدة واستثمار الاتفاق لتحسين موقعه التفاوضي مع القوى الدولية، ورفع العقوبات الاقتصادية. أما الولايات المتحدة، فتركّز على تحقيق استقرار تكتيكي يمنع عودة الفوضى في الجنوب، دون الانخراط في التزامات أمنية عميقة أو تمويل مباشر لآليات المراقبة.
تُظهر هذه التباينات أن الأطراف المعنية تتعامل مع الاتفاق بوصفه أداة لإدارة التوتر أكثر من كونه خطوة نحو تسوية دائمة.
على المدى القريب من المرجح أن نشهد مرحلة من التهدئة المؤقتة الهشّة متخللة ببعض الخروقات، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام مراجعة الاتفاق أو إعادة صياغته وفق المستجدات الميدانية والسياسية.
أما في المدى المتوسط، يبقى استقرار المنطقة مرهوناً بقدرة الأطراف على تحويل الاتفاق الأمني من تفاهم مؤقت إلى ترتيب أكثر استدامة، في حين يبقى الاتفاق رهينة التوازنات اللحظية التي قد تتبدّل مع أي تصعيد جديد أو تغيّر في أولويات الفاعلين الإقليميين.


