من حصار المدن القديمة إلى المعارك الحديثة في فيتنام وغزّة، أثبتت الأنفاق أنها قادرة على إرباك الخصوم والتصدي لهم، سواء في حالات الهجوم أو الدفاع. وفي السياق السوري، برز استخدام الأنفاق منذ بدايات العمليات المسلحة، في الغوطة الشرقية وجوبر وداريا، ولاحقاً في عفرين، لتصبح عنصراً أساسياً من عناصر الصمود، وأحد أهم التكتيكات التي اعتمدتها الفصائل الثورية في عملياتها ضد قوات النظام. بل إن استخداماتها لم تقتصر على الجانب العسكري، بل تعدت ذلك لتصل إلى مجالات إنسانية وطبية وإغاثية1.
الأنفاق في النزاعات السورية
شهدت سوريا، منذ انطلاق الثورة وحتى اليوم، حروباً وعمليات عسكرية متنوّعة من حيث القوة والتقنية والتكتيك الذي تنوعت أساليبه لتكون الأنفاق عنصراً حاضراً بقوة، حتى أنها شكّلت ما يشبه "مدناً باطنية" تحت الأرض. في بلدة الريحان بالغوطة الشرقية مثلاً، وُجدت شبكة من 13 نفق بلغ طول كل منها 15 كيلومتراً، ما يجعلها أكبر حتى من بعض شبكات المترو الأوروبية2.
هذه الأنفاق في ريف دمشق وما حولها كانت عصية على الاختراق، إذ أمنت الحماية والتحصين للمقاتلين فيها على مدار خمس سنوات ضمن مناطق سيطرة الفصائل التي لم يكن نظام الأسد المخلوع ليدخلها لولا الاتفاقات التي أجريت في 2018 بوساطة روسية3.
ولم يكن استخدام الأنفاق حكرًا على الفصائل المعارضة للنظام؛ إذ إن الأحداث في شمال وشمال شرق سوريا أظهرت حضوراً لافتاً لها. فمن الحرب ضد "داعش" إلى "قسد" تكشف التجارب عن اعتماد واسع على الأنفاق لأغراض دفاعية، كتأمين ممرات آمنة وحماية للمقاتلين وتخزين الأسلحة.
أنفاق "قسد"
سجّل التاريخ العسكري لـ "قسد" الكثير من الأمثلة على استعمال الأنفاق وتوظيفها في حروبها بعد فترة وجيزة من تشكيلها في تشرين الأول/أكتوبر عام 20154، وامتدت شبكاتها على عموم الجغرافيا التي خضعت لها من القامشلي وعامودا والدرباسية شرقاً، إلى منبج وتل رفعت وعفرين غرباً5.
وتشير تقارير إلى أن بعض هذه الأنفاق ربطت بين مدن متباعدة، وأخرى فرعية بأطوال وصلت إلى 40 كيلومتر6. وفي منبج وحدها تجاوز مجموع أطوال الأنفاق الـ 140 كيلومتر7.
وصولاً إلى عفرين التي كُشف فيها عن نفق بطول 100 متر وعرض 8 أمتار، يتسع لنحو 1000 شخص ويسمح بمرور العربات، ويحوي عشرات الغرف والأنفاق الفرعية8. كما قُدّر طول شبكات الأنفاق هناك بما يقارب الـ 50 كيلومتراً9.
في منبج وحدها تجاوز مجموع أطوال الأنفاق الـ 140 كيلومتر.
رغم ذلك، فإن جميع تحصينات "قسد" هذه لم تستطع إيقاف تقدم فصائل المعارضة المدعومة من الجيش التركي حين خسرت السيطرة على جميع المناطق والمدن التي استهدفتها عمليتا "غصن الزيتون" (2018) و"نبع السلام" (2019). إذ تمكنت أنقرة من استهداف مداخل الأنفاق بالقصف المدفعي والجوي، مما كشف هشاشة أنفاق قسد في مواجهة أي تفوق جوي وتقني.
اليوم تكرّر "قسد" تجربتها، لكن بوتيرة أسرع بعد اتفاق 10 آذار، ومع تصاعد التوتر السياسي والميداني كثّفت عمليات الحفر في الرقة والحسكة وعين العرب كوباني. ولم تعد أماكن الأنفاق وعمليات الحفر تقتصر على أطراف المدن وخطوط التماس، بل باشرت عمليات الحفر وتجهيز الأنفاق على العلن وأمام أعين الأهالي داخل المدن المأهولة، تحت المشافي، ومن قلب المباني الحكومية، وأسفل الشوارع والأبنية السكنية، ضمن مناطق ومدن تتسم ببنية جيولوجية هشة أساساً، لا سيما في مدينتي الرقة والطبقة10.
الحفر العلني، وبشكلٍ مرئي لعامة السكان، وفتحات الأنفاق المعروفة للقاصي والداني في شمال شرق سوريا، يطرح أسئلةً عدة حول غاية "قسد" من حفر هذه الأنفاق ومدى فعاليتها في أي مواجهة عسكرية قادمة.
الاعتبارات العسكرية: الأرض، السلاح المضاد، والسرية
تمتاز مناطق شمال شرق سوريا بأرض منبسطة إلى حد كبير، والطبيعة الجيولوجية للتربة فيها إما رمليّة هشة أو طينية غضارية11. كما تُعرف بارتفاع منسوب المياه الجوفية التي قد تظهر بعد عمقٍ لا يتجاوز الـ 1.5 مترِ في بعض المناطق وخصوصاً في الرقة، وهذا ما جعل التربة في هذه المناطق نفوذةً ورخوةً وأشبه بالإسفنجة12.
هذه الأرض تسهل عملية حفر الأنفاق، لكنها لا توفر صلابة كافية، ولا تسمح طبيعتها الجيولوجية بالتوغل كثيراً في الأعماق، ولا تؤمن تحصيناً ضد الضربات الجوية، مما يضعف قيمتها الاستراتيجية مقارنةً بتلك المحفورة في عفرين داخل الصخور الجبلية.
والتي لم تستطع إيقاف تقدم فصائل المعارضة في عملية غصن زيتون، واستُخدمت فيها أسلحة مضادة تم تطويرها لتشمل الطائرات بدون طيار والصواريخ المخترقة للتحصينات والقنابل الموجهة، مما يجعل كشف الأنفاق وتدميرها أمراً متوقعاً.
فترسانة الأسلحة التركية المتطورة اليوم باتت متنوعة المهام وذات كفاءة عالية للتعامل مع هذه الأنفاق بسهولة، إذ إن الطائرات المسيّرة (Bayraktar TB2 وAkinci)، قادرة على تأمين المراقبة والرصد، والواحدة منها تحلق لأكثر من 24 ساعة، وقادرة على حمل الذخائر الموجهة (MAM-L) و(MAM-C) ذات الدقة العالية والفعالية القوية في تدمير واختراق التحصينات. ناهيك عن مدافع "هاوتزر" التي كانت حاضرةً بقوة في عمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، والتي كان استخدامها فارقاً في العمليات العسكرية13.
الحفر العلني، وبشكلٍ مرئي لعامة السكان، يطرح أسئلةً عدة حول غاية "قسد" من حفر هذه الأنفاق.
مهمة هذه المنظومة العسكرية لن تكون صعبة في ظل افتقار قسد لعنصر السرية في عمليات حفر الأنفاق، وهو العنصر الأهم الذي يعطي للأنفاق ميزة الحماية والمباغتة والدفاع. ففتحات الأنفاق وأماكنها ليست مخفيةً أو عصيةً على الرصد؛ لأن "قسد" تحفرها أمام أعين الأهالي، وفي معظم المباني الحكومية والمرافق العامة.
وفقاً لذلك، فإن تجربة "قسد" مع الأنفاق تُظهر أن هذه الوسيلة ربما -وبشكلٍ ضئيل- تمنحها وقتاً إضافيا وقدرة تكتيكية محدودة على المناورة والصمود، لكنها في ظل طبيعة الأرض الهشة، والتفوق الجوي والتقني للخصوم تبقى وسيلة دفاعية مؤقتة أكثر من كونها تحصيناً ذو قيمة استراتيجية حاسمة.
وبناءً عليه، يمكن القول: إن الأنفاق قد تؤخّر انهيار خطوط "قسد" الأمامية وتمنحها وقتاً إضافياً لإعادة التموضع، لكنها ليست كفيلة بقلب موازين الحرب لصالح "قسد".
تبقى الأنفاق وسيلة دفاعية مؤقتة أكثر من كونها تحصيناً ذو قيمة استراتيجية حاسمة.
ليبقى السؤال مفتوحاً، هل تشكّل الأنفاق جزءاً من العقيدة القتالية لـ "قسد" كخيار استراتيجي طويل المدى؟ أم أنها مجرد ورقة عسكرية لأغراض سياسية في مفاوضات تنفيذ اتفاق 10 آذار؟


