وعلى الرغم من إعادة الهيكلة الجارية للمؤسسة الأمنية، ما زال عدد من السوريين ينظرون إليها بريبة وقلق، إذ يرتبط حضورها في الذاكرة الجمعية بإرث طويل من القمع والتضييق، حيث تحولت في عهد النظام السابق إلى أداة للسيطرة والإخضاع. ومن هنا يبرز التحدي الأعمق في المرحلة الانتقالية، والمتمثل في استعادة ثقة المجتمع بهذه المؤسسة لتكون أساساً لانطلاق الدولة نحو مرحلة جديدة. وفي هذا السياق، يبرز الإعلام كوسيط حيوي قادر على تقليص الفجوة بين الطرفين.
يعرض هذا المقال دور الإعلام في إعادة بناء الثقة بين المجتمع والأجهزة الأمنية في سوريا، من خلال مناقشة وظائفه في دعم الإصلاح الأمني، وتحليل التحديات التي تواجه المنظومة الإعلامية، واقتراح حلول عملية تعزز الشفافية والمساءلة وتحد من التضليل، بما يرسخ شراكة جديدة بين المواطن والمؤسسة الأمنية.
دور الإعلام في عملية الإصلاح الأمني (SSR)
يفرض إصلاح القطاع الأمني (Security Sector Reform – SSR) في مرحلة ما بعد النزاعات الالتزام الصارم بمبادئ الشفافية والمساءلة، وهو ما تؤكده برامج إصلاح القطاع الأمني المعتمدة دولياً، فإعادة بناء أجهزة إنفاذ القانون لا تقتصر على إجراءات شكلية من قبيل تغيير الأزياء أو الشعارات أو إصدار مدونات للسلوك، بل تتطلب عملية أعمق تتصل بإعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والمؤسسة الأمنية. في هذا السياق، يغدو الإعلام أداة لا غنى عنها لتفسير هذه التحولات وترسيخها في وعي المواطنين، بحيث يتجاوز دوره التقليدي كناقل للخبر ليصبح عنصراً فاعلاً في إعادة الشرعية1.
يغدو الإعلام أداة لا غنى عنها لتفسير هذه التحولات وترسيخها في وعي المواطنين.
ومن خلال وسائل الإعلام، يمكن خلق قنوات تواصل ومساءلة تسمح للمجتمع بأن يشارك في تحديد المهام الموكلة للأجهزة الأمنية، وفهم نطاق عملها وحدود صلاحياتها. هذه المشاركة لا تسهم فقط في تعزيز ثقة المواطنين بالجهاز الأمني الجديد، بل تضع أساساً متيناً لعقد اجتماعي أمني يقوم على الوضوح والشفافية. وأي مسار إصلاحي يتجاهل هذا الدور يبقى منقوصاً، إذ يفقد القدرة على بناء قبول شعبي واسع، ويترك المجال مفتوحاً أمام عودة الشكوك القديمة وإعادة إنتاج الفجوة بين السلطة والمجتمع.
الإعلام السوري اليوم وعلاقته بالسلطة الجديدة
لا تقتصر إعادة البناء في سوريا على المؤسسة الأمنية وحدها، بل تشمل المنظومة الإعلامية برمتها، سواء الرسمية منها أو الخاصة، والتي تخضع لإعادة هيكلة تتناسب مع الواقع الجديد الذي فرضه سقوط النظام. ويمكن التمييز هنا بين أنماط متعددة: الإعلام الرسمي الذي ارتبط طويلاً بسلطة النظام السابق وفقد، تبعاً لذلك، ثقة الجمهور؛ إعلام الثورة أو المعارضة الذي نشأ في بيئات اللجوء والاغتراب؛ منصات التواصل الاجتماعي التي برز فيها مؤثرون محليون خلال سنوات الحرب؛ إضافة إلى القنوات العربية والدولية التي لعبت دوراً متزايداً في الداخل السوري، فضلاً عن الإعلام الناشط في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة الحالية، ولاسيما شمال شرق البلاد2.
أدى تنوع مصادر المعلومة في سوريا إلى منح المتلقي حرية أوسع في اختيار ما يتابعه بعيداً عن المصدر الرسمي الواحد، غير أن هذا التنوع حمل في طياته مخاطر واضحة تمثلت في هيمنة الأيديولوجيات، وتصاعد الاستقطاب الطائفي والمناطقي، إضافة إلى خضوع التغطيات الإعلامية لسياسات القوى المسيطرة على الأرض. وقد أسهم ذلك في إضعاف استقلالية الإعلام وحياديته.
أدى تنوع مصادر المعلومة في سوريا إلى منح المتلقي حرية أوسع في اختيار ما يتابعه.
وبناءً عليه، فإن أي توجه جاد نحو إشراك المؤسسات الإعلامية في عملية إصلاح الأجهزة الأمنية يستوجب دعماً منظماً لهذه المؤسسات، سواء عبر الاستمرار في إعادة تفعيل وتطوير الإعلام الرسمي بصيغة جديدة أكثر مهنية، أو من خلال تمكين المنصات الرقمية الحديثة لتضطلع بدورها على نحو مستدام، بعيداً عن الاكتفاء بحملات ظرفية قصيرة الأمد.
وظائف وسائل الإعلام المتوقعة لإعادة الثقة بالأجهزة الأمنية
تُعدّ وظيفة التبسيط والتوضيح من أبرز الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها المنصات الإعلامية في هذه المرحلة. فبدلاً من الاكتفاء بلغة رسمية معقدة قد يصعب على المواطنين استيعابها، يمكن تقديم محتوى مبسط عبر منشورات أو مقاطع مرئية تشرح آليات عمل الأجهزة الأمنية، مثل تحديد مهام عنصر الأمن، والظروف التي تتيح له ممارسة صلاحية التوقيف، والحقوق المكفولة للمواطن أثناء الاحتجاز. إن هذا النوع من التوضيحات يسهم في تعزيز شعور الأفراد بالثقة والأمان، ويؤسس قدراً أكبر من الاستقرار المجتمعي.
ويأتي بعد ذلك دور المساءلة والمراقبة العلنية، حيث يسهم نشر نتائج التحقيقات المتعلقة بقضايا الرأي العام، أو توجيه المواطنين نحو آليات الشكاوى والمحاسبة، في تضييق المجال أمام الشائعات والشكوك. وفي هذا الإطار، يمكن بناء علاقة تكاملية بين الإعلام الخاص، الذي يتولى كشف الأخطاء ورصدها، والإعلام الرسمي، الذي يوضح الإجراءات التصحيحية المتخذة. إن هذا التكامل يعزز الشفافية، ويُرسخ لدى المجتمع شعوراً متزايداً بالطمأنينة والثقة بالمؤسسات الأمنية الناشئة3.
وعلاوة على ما سبق، تكتسب المواكبة الآنية للأحداث أهمية خاصة في ردم الفجوة الزمنية بين وقوع الحدث وتقديم التوضيحات الرسمية، إذ غالباً ما تستغل هذه الفجوة من قبل مروجي الشائعات ومنصات التضليل التي انتشرت على نطاق واسع في سوريا بعد التحرير. ومن هنا تبرز الحاجة إلى اعتماد منبر إعلامي موحد يصدر رسائل واضحة وشفافة، ويعترف بالأخطاء عند وقوعها. إن اعتماد هذا النهج لا يعزز المصداقية فحسب، بل يسهم أيضاً في تحصين المجتمع من حملات التضليل، ويكرس الثقة التدريجية بالمؤسسة الأمنية4.
كما يكتسب تسليط الضوء على قصص التعاون بين الأجهزة الأمنية والمجتمع أهمية خاصة، إذ يساهم في تكريس صورة هذه الأجهزة بوصفها مؤسسات خدمية لا طرفاً معادياً أو قمعياً. ومع تكرار هذا النمط من التغطيات، تترسخ فكرة الشراكة بين الطرفين وتتعمق الثقة المتبادلة. غير أن نجاح هذا التوجه مرهون بدرجة عالية من المصداقية في سرد تلك القصص، إذ إن أي مبالغة أو تضليل قد يرتد سلباً على الجمهور الذي ما زال يحمل ذاكرة مثقلة بتجارب سلبية مع الأجهزة الأمنية في عهد النظام البائد5.
تكتسب المواكبة الآنية للأحداث أهمية خاصة في ردم الفجوة الزمنية بين وقوع الحدث وتقديم التوضيحات الرسمية.
وفي موازاة ذلك، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء مركز متخصص بمكافحة التضليل والشائعات، باعتباره ضرورة أمنية في بيئة ما زالت هشة اجتماعياً. فانتشار الأخبار الكاذبة يتم بوتيرة سريعة يصعب احتواؤها بالوسائل التقليدية، الأمر الذي يفرض وجود مؤسسات قادرة على التحقق من صحة المعلومات وتفنيد المزيف منها، وتوجيه الرأي العام نحو المصادر الموثوقة. ويمكن في هذا المجال الاستفادة من التجارب العربية والسورية التي ظهرت سابقاً، بما يوفر خبرات عملية يمكن البناء عليها وتطويرها لتلبية خصوصية الواقع السوري6.
الإعلام والأجهزة الأمنية.. معوقات عمل
من غير المتوقع أن يكون مسار بناء شراكة استراتيجية بين الأجهزة الإعلامية والأمنية سهلاً أو مباشراً، إذ تعترضه جملة من المعوقات البنيوية والإدارية والإجرائية التي يتوجب التعامل معها منذ البداية. ويقتضي تجاوز هذه التحديات اعتماد مقاربات عملية تستند إلى توصيات منظمات ومؤسسات دولية راكمت خبرة في بيئات ما بعد النزاعات، بما قد يتيح الاستفادة منها في الحالة السورية. فالقدرة على معالجة هذه الإشكالات بشكل مبكر تمثل شرطاً ضرورياً لتأسيس الثقة المتبادلة، ولبناء أرضية صلبة لنجاح الشراكة المنشودة.
يمثل أول المعوقات في الإرث الثقيل لعمل الأجهزة الأمنية، سواء في عهد النظام السابق أو في بعض مناطق المعارضة التي خرجت عن سيطرة الدولة، حيث جرى تكريس مبدأ السرية المطلقة في القضايا والأفراد باعتباره قاعدة للعمل الأمني. هذا الإرث يجعل من الصعب على القائمين الجدد الانفتاح على العلنية والشفافية.
وتبرز التهديدات الرقمية كأحد أبرز التحديات في المرحلة الراهنة، حيث تنشط شبكات التزييف والتضليل مستفيدة من حالة الفراغ الأمني التي أعقبت التحرير، إذ تشير بيانات وزارة الإعلام السورية إلى أن أكثر من 300 ألف حساب إلكتروني نشطت في حملات تضليل ممنهجة خلال أحداث السويداء الأخيرة، انطلقت من أربع دول رئيسية، وأسهمت في إنتاج نحو 3 ملايين منشور خلال أيام قليلة، مثّلت الحسابات القادمة من الولايات المتحدة 40% منها، تلتها فرنسا 9% وبريطانيا 8%، فيما كانت 78% من المحتوى باللغة الإنجليزية7.
ومن جانب آخر، يؤثر تعدد الهويات والانتماءات داخل المجتمع في كيفية تلقي الرسائل الإعلامية الصادرة عن الأجهزة الأمنية فقد تُقرأ نفس الرسالة بصورة متباينة تماماً بين فئات مختلفة، فتتحول محاولات التواصل الموحدة إلى مصدر لسوء الفهم أو تعزز روايات موازية قد تضعف مصداقية المؤسسة وتعمّق فواصل الثقة الاجتماعية8، فضلا عن أن ضعف الإعلام المستقل ونقص الحماية القانونية للصحفيين يعرقل قيامه بدور رقابي مهني وموضوعي، ما يقلّص قدرة وسائل الإعلام على مساءلة الأجهزة الأمنية بشكل مستقل ويضعف مصداقية أي شراكة إعلامية-أمنية مستقبلية9.
تبرز التهديدات الرقمية كأحد أبرز التحديات في المرحلة الراهنة، حيث تنشط شبكات التزييف والتضليل.
كما أن غياب مؤشرات قياس واضحة وبيانات دورية موثوقة يحرم المواطنين من أدوات التحقق والمساءلة، فيُصعّب على الجمهور تقييم مدى جدية الإصلاحات وقياس تقدمها أو تراجعها، ما يضعف الثقة الشعبية ويعيق إمكانية إقرار سياسات تصحيحية مبنية على دلائل قابلة للقياس10.
مقترحات وتوصيات عملية
تُوصي الورقة بأن تتبنّى وزارة الداخلية ميثاق شفافية رسمي يلتزم بنشر بيانات دورية وسريعة مواكبة للأحداث، ونشر نتائج الردود على الشكاوى، وإعلان مؤشرات أداء محددة مثل عدد الشكاوى المحلولة ومتوسط زمن الاستجابة، إضافة إلى إجراء استطلاعات منتظمة لقياس ثقة الجمهور ونشر نتائجها علناً لتمكين المتابعة والتقييم المستقل11.
كما يُنصح بإنشاء مكتب اتصال إعلامي من قبل وزارة الداخلية يكون مسؤولاً عن إصدار التوضيحات العاجلة وإدارة أزمة المعلومات، وتزويد الصحافة بمواد مرجعية دقيقة متاحة للعموم، مع إدراج برامج تدريبية لمتحدثين رسميين مختصين في التعامل مع وسائل الإعلام الرقمية وعمليات التحقق من المعلومات لإدارة خطاب إعلامي منظم وفعّال12.
لمواجهة حملات التضليل الرقمي، من الضروري إطلاق مركز متخصص لمكافحة التضليل والشائعات يعمل بتنسيق بين وزارة الإعلام ووزارة الداخلية وهيئات مدنية مستقلة، يركّز على الرصد والتحقق وتفنيد المعلومات الخاطئة وتوجيه الجمهور إلى المصادر الموثوقة13.
ولتدعيم الإعلام المستقل وحماية حرية الصحافة، يُقترح تبنّي برامج دعم مادي ومعنوي تشمل منحاً تدريبية ومشروعات تمكينية، وسَنّ قوانين تحمي الصحفيين ومصادرهم وتضمن حرية الوصول للمعلومات14.
داخلياً، ينبغي إدراج برامج تدريبية مدنية إلزامية لعناصر الأمن تشرح التنوع الثقافي والاجتماعي وحقوق الإنسان ومعايير التعامل مع المواطنين، مع نشر محتوى موجز عن هذه البرامج للجمهور لتعزيز الثقة، ونشر تقارير دورية عن مدى تنفيذها وتأثيرها15.
أخيراً، يُوصى باعتماد ونشر مؤشرات قياس واضحة عن مسار الإصلاح الأمني تشمل بيانات تشغيلية وإحصاءات شكاوى ومعدلات حلّها، وإنشاء منصة مفتوحة للبيانات تسمح بالتحقق والمحاسبة، إلى جانب تشكيل لجنة إشرافية مختلطة من المجتمع المدني وإعلاميين وممثلين عن الوزارة لمراجعة هذه المؤشرات وتقديم توصيات دورية16.


